منوعات

الأربعاء - 22 يونيو 2022 - الساعة 09:02 م بتوقيت اليمن ،،،

محمد الحمامصي

يحاول الكاتب اليمني عبدالرحمن مراد في مقالاته التي ضمنها كتاب "التمايز وتيه السياسة في اليمن.. قراءات ورؤى" أن يضع بعض الاشارات على أبواب المستقبل في اليمن ونوافذه من خلال غوصه العميق في البعد الاجتماعي والمعرفي والسياسي اليمني وهي إشارات دالة على زمنها السياسي والثقافي. وما يميز هذه المقالات أنها كانت تفاعلية تستجيب للحظتها الفارقة في زمن كان عاصفا يمتاز بالزلزلة في شتى أبعاده.

يرى مراد في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة أن ما تشهده اليمن اليوم من انقسام وتشظي له مماثل في تاريخها، فهو حالة ملازمة لكل حالات التحول التي تشهده اليمن في حقب التاريخ المختلفة، ولذلك سيمتد الماضي في صميم التجربة التحولية الجديدة ويحد من أثرها في المستويات الحضارية المتعددة. وكل الذي يبعثه الواقع من إشارات اليوم يقول أن الفرقاء المتحاربين سيجلسون على طاولة مستديرة، ويتفقون على التقاسم كهدف استراتيجي غير واع لجل القوى السياسية، وقد تضمنته أدبيات المشترك التي كانت تنادي بالشراكة في الثورة والسلطة في ظل غياب تام لمشروع وطني واضح المعالم للبناء والتحديث، فالقضية التي يتحاربون عليها من قبل ومن بعد هي قضية ترف وتكاد تنحصر في الشراكة في الثروة والسلطة وليس في مشروع نهضوي بناء وواضح الرؤى، وحين ينحصر الهدف في الشراكة في الثروة والسلطة تكون القضية عبثية دون طائل وتلك في حد ذاتها معضلة.

ويقول "في ظني ووفق كل المؤشرات أن المستقبل سيشهد تحالفات بين القوى المتباينة وهذه التحالفات يتكامل مع بعضها وتشد أزر بعضها بعضا لقيادة المرحلة القادمة في حين سيشهد المستقبل غيابا كليا أو جزئيا للراديكالية بشتى تموجاتها وتوجهاتها التي ساءت بها الظنون، وساءت افعالها ومواقفها ففقدت حضورها الاقليمي والوطني، كما سوف نشهد غيابا قد يصل حد الترمد للحركات الجهادية التي صدمتها السلطة في ظل غياب الدولة في مرحلة الصراعات، فكانت السلطة هي المحك الذي صهر التجارب وقدم النماذج للواقع وكشف غلالة التوجه والمستوى الفكري للجماعات. لقد كانت السلطة حالة متقدمة على تجارب تلك الحركات الجهادية والسياسية وفقدت من خلال تفاعلها مع حياة الناس كل عوامل التجدد والحضور في المستقبل.

ويرى مراد أنه وفق قانون التاريخ أن الحرب تقود الى السلام والسلام في مجمل حالاته مهما طال مكوثه، يقود الى الحرب وتلك من سنن الله في كونه بالمعنى الاقرب أن السلام هو ما سيؤول اليه المشهد السياسي اليمني في قابل أيامه ومهوده ورموزه يبعثها الواقع اليوم ولن يطول بنا الزمن حتى نراه حقيقة واقعه بأي شكل من أشكاله سواء كان بالتوافق أم بالحسم. فاليمن التي صهرتها الحرب أصبحت أكبر حجما من مستوى تفكير رجال الحرب والصراع والتدمير، ولذلك سيصعب على المتحاربين اليوم فهم المستوى المتقدم للحالة السياسية اليمنية، وفي مجمل الاحوال كل رموز الحرب اليوم سيطويهم التاريخ في صفحات صفراء بائسة من كتابه، ومثلما كان للحرب والصراع والتدمير رجال سيكون لليمن الجديد رجال آخرون وتلك هي سنن الله في كونه.

يلفت مراد إلى أن أنصار الله يبدو أنهم يعيشون وضعا لا يحسدون عليه فالأطراف السياسية التي كان يفترض بها أن تكون عونا لهم أصبحت عبئا على المرحلة وعلى الاستقرار وعلى عملية الانتقال في حد ذاتها فالصراع على الأرض ونتائجه كادت أن تنحرف بمسار التسوية السياسية والاستغراق في الحالات الانفعالية قد يفضي إلى المزالق الخطرة والمدمرة والذين وقعوا تحت حالة (عمه الطغيان) لم يفكروا بالعودة إلى حالة الاستقرار النفسي وتغليب العقل والحكمة والمصلحة الوطنية العليا فالثأر السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف السياسية لم يخرج من دائرة الطغيان ودائرة العنف إلى دائرة العقلنة التي يجب أن تكون سمة غالبة في المراحل التي يهددها الانهيار واختلال القانون العام والطبيعي.

ويتابع أن اليمن مر تاريخيا بحالات مماثلة للحال الذي هو عليه اليوم وإدراك كنه التاريخ وحقائقه الموضوعية يجعلنا أكثر وعيا باللحظة، وبالتالي أكثر إدراكا ووعيا وسيطرة على المستقبل، ولا يمكن الوصول إلى مرحلة الوعي الحقيقي دون شعور وطني جامع بالإشكالية ودون شراكة وطنية عالية القيمة والمسؤولية والوعي، ودون توافق على المشترك واصطفاف كامل للخروج من إشكالات اللحظة إلى سعة الانتماء والتنافس الحضاري القائم على البناءات الناهضة للمشاريع السياسية الحقيقية، فالثأر السياسي الذي يستغرق نفسه في تنمية الصراع بقيم سلبية مدمرة وقاتلة يمكن أن يتحول إلى قوة إيجابية وطاقة ناهضة من خلال البناء على المشروع السياسي التنافسي الذي يرى في منظومة فشل تجربته قاعدة انطلاق نجاحه في المراحل القادمة، والقضية ليست صعبة فالطاقة الانفعالية المدمرة بقليل من التفكير قد تصبح طاقة حياة من خلال الاشتغال على فكرة المشروع، فالسياسة ليست غنيمة كما هي في محددات العقل العربي القديم، بل هي عملية إنتاجية تفاعلية ناهضة وقيمتها تكمن في حركتها وتطورها، وفي نهضة المجتمع وأسس تنميته وتفاعله الحضاري بصورة إبداعية وابتكارية لا إجترارية كما كان يحدث في الماضي، وأمام مثل ذلك فقد أصبح الخروج من وعي المؤامرة ووعي الأزمة ضرورة اجتماعية وسياسية في الآن معا، إذ أننا في حال ارتهاننا لمثل ذلك الوعي ـ أقصد وعي المؤامرة ووعي الأزمة ـ لن نبرح مكاننا فالجديد وتبدل العلائق والمصالح وعلاقات الانتاج وأدواته صيرورة زمنية وحضارية وثقافية وحالة من حالات الانتقال والتدافع، ولن تكون مؤامرة ومثل ذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها خوف الثبات وخوف الفساد في الأرض.

ويرى أن من يظن في نفسه القدرة والذكاء على دفع فطرة الله والتجديف ضد سننه فقد وقع في الخطأ، ولا سبيل لكل الماضي الذي كان في رخاء ونعيم إلا التكيف مع الجديد والتفاعل مع أدواته وعلائقه وبصورة أكثر تناغما وأكثر إدراكا له، أما سبيل الدم ومفردات الموت والفناء، فلن يكون إلا سبيلا خاسرا، فالدلالة الرمزية إلى المسارعة إلى دار النعيم والخلود ليست بالموت وإراقة الدم، ولكن بالعمل وبالابتكارات الإبداعية التي تحمل نفعا للبشرية لا دمارا لها، ولا أظن اليمن التي شهدت كل ذلك الدم المراق على ترابها بحاجة إلى المزيد منه ولكنها بحاجة إلى الحياة والاستقرار والأمن من الخوف، وكذا الأمن من الجوع ولن يتحقق لها ذلك طالما ظل كل طرف سياسي يتربص بالآخر الدوائر، وطالما ظل الاستقرار حالة جدلية تديرها ردود الأفعال والشعور الطاغي بالخوف من الآخر.

ويلفت إلى أنه من الخصائص الجوهرية للإسلام أنه أشتغل على اليقين وعلى السلام وهما خاصيتان لو تحولتا إلى ثقافة لأصبحنا أمة ذات شأن عظيم بيد أننا أهملناهما وانشغلنا بالصغائر ولو انشغلت عليهما الأطراف السياسية الوطنية اليمنية لأصبح اليمن ذا شأن عظيم متصل الحلقات بماضيه الحضاري وقادر على التفاعل مع المقومات الحضارية والثقافية الحديثة يعي لحظته الجديدة، ويؤمن بالتعدد وبحرية الآخر وحقه في الحياة والعيش الكريم. وقديما كان يقول الناس ليس الفاضل من لا يخطئ بل الفاضل من يعد غلطه، وكل نظام يصيب ويخطئ وتلك طبيعة بشرية لا مناص منها وعلينا أن ندرك الحقيقة كما هي في واقعها اليوم لا كما نتخيلها في أذهاننا، فالدولة اليوم تعاني الشتات والتشظي ومهامنا العاجلة تتمثل في جمع أطرافها، وجعلها تحت راية واحدة، وبحيث نحث الخطى في سبيل تحديث الدولة والحفاظ على مؤسساتها والعمل على تحديثها بما يتواكب والمستويات الحضارية التي وصل الانسان اليها، ولذلك يفترض الوقوف أمام التراكم والبناء عليه والتصدي بكل الحزم والقوة للمشاريع الخارجية التي تحاول أن تكسر من أرادة شعبنا وتقوض دولته.

يوضح مراد أن الرؤية الوطنية لبناء الدولة التي أقرها المجلس السياسي وبدأت الحكومة في تنفيذها، قد أكدت على أهمية الهويات الوطنية والثقافية ورأت أهدافها ضرورة ترسيخ الهوية الوطنية الواحدة الشاملة والجامعة لكافة مكونات المجتمع كأساس لبناء الدولة اليمنية الحديثة ومثل هكذا أهداف تجعلنا على قدر من اليقظة التي نأمل أن نراها واقعا في المستقبل. فإذا ما ترسخت في أذهاننا ثقافة المشروع حينها سنكون قادرين على التغيير وفق محددات ثلاثة هي أولا الوقوف أمام الماضي ومساءلة مصادره المعرفية والثقافية ذلك أن الماضي يعيق نظام الطاقة على الحياة والقدرة على التجديد. ثانيا مساءلة الحاضر البشري الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفقد أثره وانتاجه وطبيعته الاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل الخلق والابتكار ضمن حدوده النسبية لا المطلقة ومن خلال مكونه ومنظومته لا من خارجه بمعنى التغلغل في نسيجه العام وإعادة ترتيبه وصياغته وتأهيله. ثالثا الوقوف أمام أسئلة المستقبل وخلق امكانية التحكم به عبر أدوات ومناهج العلم والتخطيط، لا الفوضى والارتجالية وسوء التخطيط التي نعاني منها في مظاهر حياتنا سواءً الفردي منها أو الجمعي. وهذه المحددات تقودنا إلى موضوع الحرية، ذلك أن المثقف الملتزم يجب أن يكون عنصرًا فاعلًا ومتسائلًا ومشاركًا في التغيير الاجتماعي وقادرًا على قول منجزه بعيدًا عن الأطر الأيديولوجية والإحتواءات السياسية والإملاءات التي قد تشكل ضاغطًا عليه وعنصرًا مصادرًا لحريته في التعبير. وهذه الحرية لا تتناقض مع القول بأهمية المثقف العضوي أو الحزبي بالمعنى الجمعي الذي يحمل مشروعًا نهضويًا، إذا كان يؤمن بقيم الحوار ويستوعب الآخر ولا يلغيه، ولا يتحيز ك هو المنهج والمنطق ومؤشرات النتائج وفق قياسات علمية.

ويؤكد أن المثقف العضوي اليمني عمومًا يعيش في مجتمع تقليدي تقوم فيه أنظمة تقليدية قمعية وثابتة تحارب الثقافة والتحديث، وتطارد الوعي، وكل الحركات والتموجات التي حدثت في تاريخنا المعاصر لا تعدو كونها اتجاهًا إصلاحيًا توفيقيًا استند إلى التراث حينًا، وإلى الثقافة الأوروبية حينًا وإلى الاثنتين معًا في بعض الأحيان وقد أفرز ذلك واقعًا ثقافيًا مهزوزًا وانتج مدارس فكرية وسياسية مقلدة. وحتى أكون أقرب إلى التوضيح أتساءل: كم حزبًا سياسيًا في حاضرنا يحمل فكرًا نهضويًا نابعًا من المقومات الوطنية الاجتماعية والثقافية للعرب؟ وأين مظاهر تلك الأيديولوجيات الحزبية على المستوى الاجتماعي العربي؟ وماهي قيم التغيير الاجتماعي التي أحدثتها؟ وهل نلمس وجودًا لدوائر الفكر والثقافة والإعلام؟ وأين أنشطة هذه الدوائر؟هذه الأسئلة يجب أن تطرح، ويجب أن تناقش مع قيادات الأحزاب الفاعلة، نريد أن يكون لهم وجود ومناشط متعددة، باعتبار الأحزاب مؤسسات مجتمعية قائمة على مشاريع ثقافية نهضوية تخدم المجتمع وتحاول بلوغ غاياتها وباعتبار الفاعلين فيها نخبًا ثقافية. فالمثقف العضوي (أوالحزب بالمعنى الجمعي هو الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من العمال والفلاحين والفقراء، فالحرب التي تدار اليوم هي حرب أفكار وصراع حضارات وتلك هي مؤشراتها في واقعنا العربي، وتفاعلاتها وتداعياتها وهي الصورة المثلى لها، وعلينا أن ندرك ذلك وحتى نتحكم في مقاليد المستقبل لا بد لنا من الاشتغال على الاستراتيجيات وثقافة المشروع.