كتابات وآراء


الثلاثاء - 13 مايو 2025 - الساعة 11:00 م

كُتب بواسطة : الكاتب / مصطفى بن خالد - ارشيف الكاتب




شذرات إستراتيجية




من أروى ملكة عدن إلى اليوم :
عدن لا تنكسر ونساءها لا يُقهرن

منذ أن اعتلت أروى بنت أحمد الصليحي عرش اليمن في القرن الحادي عشر، لم تعد عدن مجرّد ميناء تجاري أو مدينة ساحلية، بل تحوّلت إلى منارة تضيء درب الريادة النسائية في العالم العربي .

لم تكن أروى مجرد ملكة، بل كانت سيدة القرار، وعقل الدولة، وصوت العدالة في زمنٍ ندر فيه أن تُمنح امرأة هذا المقام .

أثبتت للعالم أن الحُكم لا يُبنى على السطوة وحدها، بل على الحكمة، وأن العدل لا يكتمل إلا حين تكون المرأة في قلب المشهد، شريكة في السيادة، صانعة للمصير، وقائدة للتاريخ لا تابعته .

ومنذ لحظة تتويج أروى، لم تتوقف المرأة العدنية عن صناعة الفعل، لا كمجرد رمز، بل كقوة حية تُعيد تشكيل الوعي، وتفرض حضورها في قلب المشهد الوطني .

لم تكن يوماً ظلّاً لرجل، ولا هامشاً في رواية السلطة، بل كانت دائماً شريكة في القرار، ورافعة للكرامة، وصوتاً لا يعرف الانكسار .
في أزقة كريتر، وعلى أرصفة التواهي، وفي المعلا وخور مكسر، خطّت ماجدات عدن سطوراً من نور في سفر المقاومة، نساء لا يشبهن النماذج المستهلكة، بل يشبهن الوطن حين يحلم، ويشعلن في قلبه جذوة الكرامة حين تنطفئ .

من رضية إلى الماجدات اليوم :
صوت لا يصمت
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لم تكن عدن مجرد ميناء على خارطة الإمبراطورية البريطانية، بل كانت مدينة تصوغ الوعي وتختبر حدود العصيان .

في صدارة المشهد، نهضت رضية إحسان الله، تهتف في وجه الاستعمار، تقود التظاهرات، تُسجن، تُضرب عن الطعام، وتنتزع حريتها من بين أنياب القمع البريطاني .

لم تكن وحدها، بل كانت طليعة لجيل من النساء العدنيات اللواتي أدركن باكراً أن النضال لا يُحتكر، وأن الكرامة لا تُورَّث، بل تُنتزع .

كُنّ صانعات فعل، لا تابعـات.
سطرن بحناجرهن المبحوحة، وقلوبهن الصلبة، ملحمة أنثى رفضت أن تكون هامشاً في كتاب الوطن .
وبدلاً من انتظار دورها في الصف، اقتحمت المرأة العدنية الصفوف الأولى، لأن الحرية ليست رفاهية تُمنح، بل شرف يُنتزع .

واليوم، تعود المرأة العدنية إلى الشارع، لا بسلاح سوى صوتها، ولا بدرعٍ سوى كرامتها .
تصرخ لا طلباً لامتياز، بل للماء النظيف، للكهرباء التي لا تأتي، للدواء الذي لا يُرى، ولرغيف خبزٍ تُنازعه مع الجوع والفقر .
خرجت لتُطالب بحياة كريمة في وطن تتقاسمه الميليشيات، وتنهشه الفوضى، وتُفلسه سلطات لا تعرف من الدولة سوى أسمها .

خرجت لأن الفساد فاض على الأفواه قبل الصحون، ولأن النخب المتعاقبة لم تترك لليمنيين سوى رماد الذكرى وخيبة الرجاء .
خرجت لأن الرجال الذين اعتلوا منابر السلطة خانوا الأمانة، وبدّلوا قسم الوفاء بصفقات البيع، يوزّعون الوطن بالمزاد، كلٌّ على مقاس راعيه، من الداخل والخارج سواء .

خرجن من وهج التاريخ ولهيب الحاضر .
خرجت بنات رضية إحسان الله، نجوى مكاوي، وحفيدات صفية لقمان، رقية علي محمد، سعيدة جرجرة،، ليلى جبلي، زهرة هبة الله، وعائدة يافعي.
خرجت نساء سَلَفن، نور حيدر، ولول حيدر، ولولة باحميش، وفطوم يابلي، وسرن على درب شفيقة وحليمة خليل اليناعي، ورجاء أحمد سعيد، وفوزية محمد جعفر، وأنيسة أحمد سالم، وآمنة يافعي، وفطوم علي أحمد، وفتحية باسنيد، والشهيدة عائشة كرامة، ونجلاء شمسان، ومرام زوقري، ونفيسة منذوق، وغيرهن من النساء اللواتي ضاق بهن الحبر، لكنهن لم يغبن عن سجل المجد والكرامة .

خرجن ليقلن للعالم أجمع :
إن عدن التي قاومت المستعمر، لا تنكسر لجوع، ولا تضعف تحت سطوة بندقية .

عدن قد تنزف، قد تتعب، قد تنوء تحت ركام القهر، لكنها لا تموت .
في شرايينها نبض لا يخفت، وفي شوارعها نساء لا يُهزمن .
الكرامة ليست لافتة تُرفع في مظاهرة وتنطفئ، بل امرأة تمشي في وجه العاصفة، جبينها مرفوع، وعيناها على الغد .
ليست الكرامة قولاً يُتداول، بل فعلاً تمارسه ماجدات عدن كل يوم وهن يفتحن الطرقات المُغلقة، يوقظن الضمير المعطوب، ويشقن طريقاً لوطنٍ لا يركع، لا يُشترى، ولا يُباع .

وإن سُئل التاريخ يوماً عن معنى الكرامة، فلن يتهجّى الاسم إلا هكذا :
ماجدات عدن .
وإن أراد أن يُسمي روح الوطن، فلن يجد سواهن ليكتب بهن سيرة المجد والصمود .

في المقابل، إذا فتّشت البلاد عن أصل البلاء، ستجد النخب الفاسدة في طليعة الجريمة، شركاء دائمين في خراب الدولة، وعدواً معلناً لكل ما هو نبيل، ولكل امرأة حرة تجرؤ أن ترفع صوتها في وجه القهر وتقول :
لا .
ما يجري اليوم في عدن ليس مجرد أزمة كهرباء أو شح مياه، بل هو سقوط أخلاقي مدوٍ لنظام حكم متهالك ونخب مأجورة .

ليس إنهيار خدمات، بل إنهيار ضمير . من يصرخ بـ” الانفصال ” أو “ الوحدة ” وهو يعجز عن إنارة غرفة مريض أو إسكات عطش طفل، ليس إلا دجالاً يبيع الوهم للناس ويتاجر بخرابهم .
ومن يلوّح براية الوطن ليحجب خلفها سرقات بالمليارات، هو خائن بلباس وطني .

النخب السياسية اليمنية، شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، لم تتنافس يوماً على خدمة الشعب، بل على اقتسام غنائم الدولة، والتفنن في إذلال الإنسان، وتجريف آخر ما تبقى من فكرة المواطنة .

كيف يُقهر صوت المرأة في عدن، وهي التي خرجت في وجه الإمبراطورية، فدوّت هتافاتها في وجه المدافع والسجون؟ كيف يُراد إسكاتها اليوم، وهي التي، في ساعات قليلة، كشفت عجز سلطات مهترئة، وأسقطت أقنعة من يتاجرون بالشعارات؟ المرأة التي خاضت معارك التحرر، لا يمكن أن يُرهبها لصٌّ بزيّ مسؤول، أو ميليشيا تتحدث باسم “ الحق ”.
إن من يعجز عن تأمين ماء لطفل، أو دواء لمريض، لا يملك حق تمثيل شعبه .
ومن لا يسمع صرخة امرأة تطالب بالحياة، لن يسمع سوى رنين العملة في جيوبه الملطخة بالتبعية والخيانة .

عدن لا تنكسر..
وعدن لا تُشترى

عدن ليست مدينة تمرّ في الهامش، بل أيقونة على خارطة الكرامة العربية .
هي ذاكرة نضال، ومرفأ وعي، ومهد لأرواح لم تُهزم رغم الحصار والتآمر والغدر والنخاسة .
عدن لا تنحني، حتى حين تُغلق في وجهها أبواب الكهرباء والماء، وحتى حين تتحوّل الدولة إلى ميليشيا، والسلطة إلى دكّان بيع وشراء .

ونساء عدن، لسن مجرّد متظاهرات، بل حاملات لراية الحق حين يصمت الجبناء، وصوت الضمير حين تغيب العدالة .
ما فعلنه في وقفة الأمس لم يكن احتجاجاً، بل صفعة في وجه كل من أعتقد أن عدن قد تُباع، أو تُشترى، أو تُقهر. عدن قد تصبر، لكنها لا تركع…
ولن تفعل .

هذا الغضب النسائي ليس لحظة عابرة، بل موجة متصاعدة من وعيٍ يتجذّر في قلب الألم ويولد من رماد الخذلان .
حين تصمت النخب ويخذل الرجال أوطانهم، تقف المرأة في الواجهة، تصرخ، وتكتب بجرأتها سطور الكرامة من جديد .
في عدن، حيث تعلّم اليمني أولى دروس المدنية والتحضر، تعود النساء ليقلن :
لسنا ظلاً لأحد، ولسنا بديلاً لأصوات غائبة، نحن الأصل حين يغيب الأصل .
وعلى من يختبئون خلف المناصب والشعارات أن يفهموا :
إذا خرجت النساء، فهذا يعني أن الصمت مات، وأن الساعة دقّت، وأن لا رجوع قبل أن تُعاد عدن إلى أهلها… حرّة، آمنة، وعزيزة .

أروى لا تزال هنا…
في كل امرأة تصرخ باسم عدن

من أروى التي اعتلت العرش بالحكمة والبصيرة، إلى رضية التي واجهت الاستعمار بصدرٍ عارٍ، إلى النساء اللواتي اجتاح صوتهنّ شوارع عدن بالأمس، ثمة خيط ذهبي لا ينقطع، تسير عليه النساء كمن يحملن شعلة لا تخبو .
في كل صرخة خرجت من قلب المدينة، كانت أروى تمشي، ورضية تهتف، والشهيدات يفتحن الطريق بأسمائهن الخالدة .

عدن لم تهزمها الانقطاعات، ولا أفقرها غياب الخدمات، بل طعنتها خيانات من زُعِم أنهم حماة لها، وهم أول من باعها .
لكن صوت النساء في عدن، كما التاريخ، لا يفنى ويضمحل .
هو ذاكرة مقاومة، وقبضة كرامة، وإرث لا يُشترى .

عدن لا تنكسر…
لأنها أنجبت نساء لا يُكسرن .

ولمن لا يزال يظن أن المرأة في عدن مجرد رقمٍ ثانوي، فليفتح عينيه على صفحات التاريخ .

عدن لم تُكرّم نساءها مجاملة، بل لأنهن هنّ من حملنها على أكتاف الوعي حين خذلها الجميع .

ففي اللحظة التي سقطت فيها الرايات، وتبعثرت الشعارات، بقيت نساء عدن واقفات، يُعدن للمدينة هيبتها، ويكتبن وجهها الحقيقي بحبر العزة والكبرياء .

هنّ الأصل، لا الهامش .
والمدينة مدينة بهنّ، لا عليهنّ .
هنّ الأمس واليوم والغد .