الخميس - 02 أكتوبر 2025 - الساعة 08:32 م
شذرات إستراتيجية
في الأعالي السامقة لليمن، حيث ترتدي الجبال عباءة الغيم، وتتمايل القمم كحراسٍ أسطوريين على بوابات التاريخ، تمتد مدرّجات خولان وحراز ويافع كأبيات قصيدة محفورة على جسد الأرض .
هناك، في تلك البقاع التي تُشبه لوحة معلّقة بين السماء والإنسان، تنبض أشجار البن بثمارها الياقوتية الصغيرة، محمولة على أغصانٍ تبدو كأصابع ذاكرة تمتد من عمق القرون .
ليست تلك الثمار مجرد حبوب تُحمّص وتُشرب، بل هي لغة الأرض حين تتكلم، وسيرة وطن تُروى في فنجان، وذاكرة أجيال نسجت عرقها في مدرّجات الجبال لتورث العالم مشروباً صار رمزاً للحياة نفسها .
كل حبة بن يمني تحمل في قلبها قصة :
عن فجرٍ يستيقظ مع المزارع، عن حبة حمراء تخبئ نكهة المطر، وعن قافلة تجارية غادرت ميناء المخا لتغير عادات الكون بأسره .
في كل رشفة من قهوة يمنية، لا نتذوق مجرد شراب، بل نستحضر أغنية الأرض، ونداء التاريخ، وإيقاع الخطوات التي عبرت الأزمنة حاملة هذا الإرث .
إنها ليست بداية قصة البن فحسب، بل بداية حكاية اليمن مع ذاته ومع العالم … حكاية لا تزال تُكتب حتى اليوم، كل صباح، على بخار فنجان يتصاعد كقصيدة .
جذور … الحكاية
قبل أن يعرف العالم ساعةً توقظه أو منبهاً يصرخ في الصباح، كان اليمني يستيقظ على همس الريح، وضياء الشمس، ورائحة الأرض الرطبة بعد المطر .
هناك، بين مدرجات الجبال، كان المزارع اليمني يكتشف سراً صغيراً مخبوءاً في حبات داكنة لا يلفت بريقها النظر، لكنها تحمل في جوفها معجزة غيّرت تاريخ البشرية .
لم تكن الحبة مجرد طعام، بل كانت شرارة يقظة .
جرّبها الناس، فوجدوا فيها سحراً يبدّد النعاس ورائحة
تُوقظ الحواس وتُبهج الروح .
ومع الوقت، تسللت هذه الحبوب إلى زوايا الصوفيين في حضرموت وصنعاء وعدن وتعز وزبيد، فأصبحت رفيقة الأوراد في الليالي الطويلة، وزاداً للذاكرين في رحلاتهم الروحية .
كانت القهوة تُشرب لا لتسلي الجسد فقط، بل لتفتح أبواب البصيرة، وتجعل الليل أكثر صفاءً، والكلمة أكثر حضوراً، والروح أكثر استعداداً للتحليق .
ومن مجالس الذكر تلك، انطلقت الحكاية :
حكاية مشروبٍ سيغادر حدود الزوايا إلى الأسواق، ثم إلى الموانئ، ليعبر البحار والمحيطات، ويصير بعد قرون لغة العالم الصباحية .
لكن الجذور … كانت هنا، في اليمن، في جبلٍ يرتدي الغيم عباءة، وفي فنجانٍ أول سُكب على مائدة الروح .
هكذا وُلدت القهوة، لا كمشروب عابر يبلل الحلق، بل كطقسٍ روحيّ يعيد ترتيب علاقة الإنسان بالليل والنهار، وكيمياء سرّية تمزج بين وهج الروح وإيقاع الزمن، لتصير كل رشفة منها صلاةً صغيرة تُرتّلها الحواس .
نعم وُلدت القهوة، لا كمجرد شراب، بل كطقسٍ روحي، وكيمياء خاصة بين الإنسان والزمان .
من المخا … إلى العالم
لم تمضِ سنوات قليلة منذ أن اكتشفت اليمن حبوبها السحرية حتى بدأت القهوة رحلتها الكبرى، تاركة أحضان الجبال وهدير الرياح خلفها، متجهة إلى ميناء المخا، تلك المدينة الساحلية الصغيرة التي صارت بوابة اليمن نحو العالم .
في أزقّتها القديمة، بين رائحة البحر والبهارات، تُحزم أكياس البن، وتستعد للعبور في قوارب تجوب البحر الأحمر، حاملة معها إرث قرون من الأرض والعرق والصبر .
ومن المخا، عبرت القهوة صحراء الحجاز، لتصل إلى مكة والمدينة، حيث وجد الحجاج والتجار في هذه الحبوب قوةً تنشط الجسد، وتُلهب الروح .
ومع مرور الزمن، وصلت القهوة إلى القاهرة، وفي الأزهر الشريف، وبين حلقات العلماء وطلاب الفقه، لم تُشرب فقط كشراب، بل صارت وسيلة للجدل والتأمل والمعرفة .
هناك، في ضوء الشموع وبخار الكؤوس، وُلدت أولى المقاهي، تلك الفضاءات التي جمعت بين الفكر والحكمة، حيث صار فنجان القهوة منصة للنقاش، ومفتاحاً لعوالم جديدة من الثقافة والمعرفة .
رحلة القهوة كانت إذن أكثر من تجارة؛ كانت سفر روحاني، وجسر ثقافي يربط جبال اليمن بأسواق العالم، ويحوّل حبة صغيرة إلى أسطورة عالمية، يحكي كل فنجان منها قصة الأرض التي أنبتته، والإنسان الذي أحبّه واحتضنه .
بنت اليمن (القهوة) … تنتشر في العالم
لقد حمل العثمانيون هذا المشروب العجيب إلى إسطنبول، المدينة التي تتلألأ قبابها ومآذنها على مياه البوسفور، حيث أصبحت القهوة جزءاً من الطقوس اليومية، رفيقة الصباح وسهر الليالي، وأداة اجتماع في المقاهي التي امتلأت بالعلماء والشعراء والتجار .
من ردهات القصور، والأزقة المعبقة برائحة البهارات، شقت القهوة اليمنية طريقها إلى أوروبا، حيث عبرت البحار وفتحت أبواب المدن الساحلية القديمة على مصراعيها .
في البندقية، كانت أولى المقاهي الأوروبية تقدّم مشروب اليمن، وفي باريس ولندن، صار اسمها موكا كلمة سحرية تحمل بين حروفها اليمن، المخا، والفنجان الأول الذي سيغير عادات العالم للأبد .
لم تكن القهوة مجرد شراب هناك، بل رسالة من جبال اليمن إلى العالم، محمولة في كل رشفة، تنبض بتاريخ الأرض، بعرق المزارع، وبحكايات الليل الطويل في الزوايا والمساجد .
كل فنجان كان صدىً لجبال خولان وحراز، ويافع، وبرع ، وريمة، وملحان، وكل رشفة رحلة عبر الزمن والثقافة، إلى أن أصبحت القهوة اليوم لغة عالمية لا يعرفها العالم إلا بهذا الأصل اليمني الفريد .
القهوة في … حياة اليمنيين
في اليمن، لم تكن القهوة مجرد سلعة تُصدر عبر الموانئ، بل كانت لغة الروح والكرم، ووشاح الهوية الوطنية الذي يربط الإنسان بالأرض وبالآخرين .
لا يكاد بيت يمني يخلو من فنجان بن يختلط بعبق الأرض، أو كأس قشر غلي في الماء والتوابل، مشروب ينبعث منه بخار يملأ الغرفة بذكريات أجيال .
القهوة في اليمن أكثر من مشروب؛ هي احتفال بالكلمة واللقاء، وطقس اجتماعي يجمع بين الناس في كل مناسبة :
• في المجالس، تبدأ الحكايات وتطول السهرة، وتتناثر الكلمات على بخار الفنجان العابق، كأن القهوة تُحفّز الأرواح على الحديث والتأمل .
• في الأعراس والمناسبات، تُسكب القهوة ليس فقط لتروي العطش، بل لتعلن الكرم والشرف، لتكون علامة احترام وارتباط بين الضيف والمضيف .
• وفي الشعر الشعبي والأمثال والحكايات، كانت القهوة رمزاً للجمال والتواصل، ومُلهمة للشعراء والحكماء، وكأن كل رشفة تحمل سطراً من تاريخ اليمن وجماله الدافئ .
هكذا، صارت القهوة حكاية يومية وحارساً للذاكرة، وكل فنجان يروي قصة من قصص الجبال والمزارع والليالي الطويلة، قصة لا ينسى أهل اليمن أن يمرروا سحرها عبر الزمن .
تنوع يُشبه … تنوع اليمن
من البن الخولاني في شمال صعدة، حيث تتعانق الغيوم مع قمم الجبال الشامخة، ويحمل النسيم عبق التاريخ وأصالة الأرض، هناك حيث الروح ترتقي مع الطبيعة، وتختلط الأصالة بالقوة والوفاء لأرض الأجداد، إلى الحرازي في أعالي جبالها المنيفة ووديانها اللطيفة، حيث يحمل النسيم عبق الأصالة وشموخ الأجداد، وإلى البن الخولاني في شمال صعدة، حيث تتعانق الغيوم مع القمم الشامخة، ويختلط عبق التاريخ بروح الأرض، وإلى البن اليافعي، حيث تهبط أشعة الشمس على السهول المزدهرة، وتروي القلوب كما تسقي الأرض حبات القهوة الغنية بالعراقة، وإلى البرعي فوق الجبال المطلة على تهامة والبحر الأحمر، حيث يلتقي الجبل بالبحر في لوحة طبيعية تأسر العين والروح، وإلى الحمادي من جبال تعز، حيث تتعانق السماء مع القمم الشامخة، وتتغلغل الأصالة في كل نفس، وإلى الملحاني من جبال ملحان، حيث الأرض خصبة والعزم متجذر في صخورها،
وإلى الريمي من جبال ريمة الخضراء، حيث يسكن السحر الطبيعي في كل زاوية وتروي الطبيعة روح من يسكنها .
كل هذه الأماكن تشكل نبض اليمن الأصيلة،
حيث تلتقي الأصالة بالشجاعة، والتاريخ بالروح، والطبيعة بالقلب، لتبقى اليمن أرضًا للكرامة، وللشموخ، وللقيم التي لا تنكسر .
يتضح أن اليمن بأكمله عبارة عن فسيفساء من النكهات، لكل منطقة طابعها الفريد، ومذاقها الخاص، وروحها المتأصلة في الحبوب .
لكل صنف حكاية الأرض التي أنبتته :
المطر، الشمس، الريح، والتربة الغنية، تعطي كل حبة حموضة فاكهية، ومرارة عذبة، ولمسة زهرية، وعمقاً عطرياً لا يشبهه شيء في العالم. فحين تضع الفنجان أمامك، لا تشرب مجرد شراب، بل تستحضر جغرافية اليمن بكل تفاصيلها، تاريخها، وثقافتها في كل رشفة .
كل فنجان بن يمني هو لوحة فنية مركبة :
الألوان الملمسية للنكهات، الموسيقى الخفية للحموضة والمرارة، وعبق الورد البري والكرز، كلها متشابكة لتروي للعالم قصة الأرض، والمزارع، والموروث، والحضارة اليمنية في أصغر حبة قهوة .
البن اليمني يجمع بين الحموضة الفاكهية، والمرارة العذبة، واللمسة الزهرية، ليُعطي فنجاناً أقرب إلى لوحة فنية معقدة المذاق .
حتى إن خبراء القهوة العالمية يصنفون اليمن كأكثر بلد تنوعاً في الطعم رغم صِغر مساحته .
البن … ذهب اليمن الأخضر
على مدى قرون، شكّل البن اليمني العمود الفقري للتجارة والاقتصاد الوطني، ولقب بـ”الذهب الأخضر” ليس عبثاً، بل لأنه حمل اليمن على أكتافه، موّلاً الأسواق، وجالباً العملة، وموطناً لها في قلب التجارة العالمية .
كانت حبة البن اليمني الواحدة كأنها رسالة من الأرض، تعبّر عن صبر المزارع، عن حرارة الشمس، وعن غيم المطر الذي سقى المدرجات.
واليوم، رغم تقلص الإنتاج بفعل الحروب والأزمات، يظل البن اليمني نجماً ساطعاً في المزادات العالمية، يسحر الخبراء والمزارعين والمستهلكين على حد سواء، بأسعار خيالية تُعبّر عن ندرته وتفرّده .
ففي كل رشفة، لا تذوق فقط نكهة فريدة لا يشبهها شيء في العالم، بل تستشعر إرث قرون، وتاريخ وطن، وهويّة شعب.
البن هنا ليس مجرد محصول، بل قصيدة الأرض اليمنية المعبّرة عن صمودها، وعطاءها، وعظمة هويتها، فكل فنجان هو شهادة حيّة على ما يمكن أن تنتجه الأرض حين يلتقي الإبداع البشري بصبر الطبيعة .
البن كهوية … وطنية
البن في اليمن ليس مجرد محصول زراعي؛ إنه رمز الهوية، وشهادة الانتماء، ومرآة الروح الوطنية .
كل فنجان قهوة يمني يحمل بين رشفاته ذاكرة الجبال، وعرق المزارع، وعبق الأرض .
حين يضع اليمني فنجانه أمامه، لا يتذوق مجرد نكهة، بل يستحضر سيرة أجداده الذين نقّشوا المدرجات على سفوح الجبال بعرقهم، ورعوا الشجرة بصبرهم، وحافظوا على إرث الأرض ككنز ثمين .
كل حبة بن هي رسالة من الماضي إلى الحاضر، تحمل إرث قرون من الصمود والكرم والإبداع .
الفنجان اليمني ليس مشروباً فحسب، بل وثيقة حيّة للهوية، وسفر عبر الزمن، وحكاية الأرض التي تمنح الحياة والكرم، والروح التي تصنع التاريخ .
هنا، في كل رشفة، يتلاقى الإنسان مع الوطن، ويتحقق الانتماء في أبسط التفاصيل، ليصبح شرب القهوة طقساً وطنياً، وشعيرة روحانية، وتجربة جمالية متكاملة .
الخلاصة: اليمن في فنجان
اليوم، حين تجلس في مقهى حديث في نيويورك أو باريس، وتلوح أمامك رائحة قهوة “موكا” أو “خولاني” أو "حرازي" أو "يافعي"المحمصة بعناية، تذكّر أن كل حبة ليست مجرد بذرة، بل سفيرة الزمن والتاريخ .
لقد قطعت آلاف الأميال، عابرة قروناً من الصعود والهبوط، من جبال اليمن السامقة إلى الطاولات في العالم، حاملة معها قصة الأرض، والمزارع، والأجداد الذين زرعوا المدرجات بعرقهم، وحافظوا على الشجرة بصبرهم، وصدروا إرثاً غيّر عادات الأمم .
كل رشفة من هذه القهوة هي قصيدة للهوية اليمنية، ونغمة من إرثها الثقافي، ورائحة من صمود شعبها. في فنجان واحد تتلاقى الجغرافيا بالتاريخ، والإنسان بالتراث، والذاكرة بالمستقبل .
اليمن هنا، رغم كل الجراح، يقدم للعالم الطاقة، والجمال، والحياة، والشعر … في فنجان قهوة .
إنها ليست مجرد خاتمة للمقال، بل نداء للانغماس في روح اليمن مع كل لحظة، مع كل رشفة من هذا الذهب الأخضر، مع كل قصة تُروى عن الأرض التي أنبتت الحضارات، وألهبت الحواس، لتظل اليمن في القلب، وعطرها حاضرًا في كل مكان في كل نفس، وكل ذكرى .