الجمعة - 06 يونيو 2025 - الساعة 10:10 م
في صباح عيد الأضحى المبارك، حيث يفترض أن تسود مظاهر الفرح والتراحم والتكافل، يعيش ملايين اليمنيين مرارة الحرمان، ويواجهون العيد بجيوب فارغة وقلوب مثقلة بالوجع. الأسر التي كانت تقيم الشعائر، وتفرح أبناءها بالكسوة والذبيحة، باتت اليوم عاجزة حتى عن توفير لقمة كريمة. التضخم الجامح، وتدهور العملة، وانعدام الرواتب، كلها لم تأتِ من فراغ، بل هي نتائج تراكمية لقرارات مرتجلة، وسوء إدارة، والأخطر: غياب التحليل الاقتصادي العلمي الذي يُفترض أن يقود الدولة إلى التعافي لا إلى الانهيار.
وما يفاقم المأساة أن هذا التدهور يتزامن مع تهميشٍ ممنهج لعلم الاقتصاد، وإقصاء للكفاءات الاقتصادية من مواقع التأثير الأكاديمي والإداري، وكأننا نقرر أن نُطفئ المصباح في قلب العتمة. فبدل أن يُعتمد الاقتصاد كركيزة لصياغة السياسات العامة، يتم اختزاله إلى مجرد فرع جامعي لا يُطلب له أساتذة، ولا يُعطى له دور في لجان التخطيط أو إصلاح المالية العامة أو إدارة الموارد.
ومن قلب هذا التناقض الجارح، تأتي هذه المقالة لتطرح سؤالًا ملحًا:
كيف يمكن أن ننتشل وطنًا من أزمته، ونحن نُقصي من بيدهم أدوات الفهم والتحليل والإصلاح؟
رغم تصاعد مظاهر الانهيار الاقتصادي في اليمن، يُلاحظ بوضوح غياب الدور الفعلي لعلم الاقتصاد في السياسات الأكاديمية والمجتمعية، حيث يتجلى ذلك في التهميش المستمر لهذا التخصص في الجامعات، واستبعاد الاقتصاديين من مواقع التأثير في التخطيط والإدارة العامة. يستعرض هذا المقال طبيعة التهميش، جذوره الفكرية والمؤسسية، ثم يحلل آثاره الممتدة على واقع الاقتصاد اليمني، داعيًا إلى إعادة الاعتبار لدور الاقتصاد كمرتكز لبناء الدول لا مجرد فرع معرفي منعزل.
*مقدمة*
لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض من ركام الحروب والأزمات دون أن يعيد تمكين أدواته التحليلية الأساسية، وفي مقدمتها علم الاقتصاد. لكن ما نراه في الواقع اليمني، منذ سنوات، هو مشهد من الإقصاء والتقزيم المتعمد لهذا العلم، ليس فقط في مناهج التعليم الجامعي، بل وفي صُنع القرار، والتوظيف، وإعادة الإعمار.
هذا المقال لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يفكك منطقها، ويثبت عبر الأدلة أن تهميش الاقتصاد أسهم فعليًا في تعميق حالة الانهيار.
*أولًا: الاقتصاد علم تأسيسي وليس ثانويًا*
يُعد علم الاقتصاد من العلوم الأم التي تفرعت منها علوم الإدارة، والمحاسبة، والسياسات العامة. وهو يُعنى بتحليل الندرة، الخيارات، توزيع الموارد، والاستدامة، وهي محاور لا يمكن لأي منظومة إدارية أن تعمل دونها.
> يقول الاقتصادي العالمي بول سامويلسون:
"علم الاقتصاد لا يقول للناس فقط كيف يعيشون، بل يساعدهم أن يفهموا لماذا يعانون."
بالتالي، فإن اعتبار الاقتصاد تخصصًا هامشيًا في الجامعات والمؤسسات هو انحراف أكاديمي ومنهجي.
*ثانيًا: جذور تهميش الاقتصاد في اليمن*
1 *. فكر ضيق الأفق*
يُنظر إلى الاقتصاد غالبًا في الأوساط الإدارية والأكاديمية اليمنية على أنه تخصص نظري بحت، لا صلة له بالتطبيق العملي، بخلاف تخصصات الإدارة والمحاسبة. وهو فهم مغلوط، لأن كل قرار إداري ناجح يجب أن يستند إلى تحليل اقتصادي.
2 *. غياب السياسات الأكاديمية الرشيدة*
لم تُعتمد إلى اليوم رؤية وطنية موحدة لتطوير البرامج الاقتصادية، أو لربط التعليم الاقتصادي بسوق العمل، أو إدماج خريجيه في مفاصل الدولة.
3 *. تهميش الكفاءات الاقتصادية*
تشهد الجامعات اليمنية (وحتى بعض الوزارات) حالات إقصاء متكررة لكوادر الاقتصاد، لصالح تخصصات أخرى، بحجج شكلية تتعلق بـ"التخصص الضيق" أو "عدم الحاجة".
> تقرير اليونسكو (2021):
"تُعاني الجامعات في الدول الهشة من ميل لتهميش الاقتصاد والسياسات العامة، لصالح التخصصات التنفيذية، مما يؤخر بناء العقل التنموي المؤسسي."
*ثالثًا: نتائج التهميش الكارثية على الاقتصاد اليمني*
1 *. صنع سياسات دون تحليل*
أغلب القرارات الحكومية بعد الحرب تُتخذ دون تحليل اقتصادي واضح، مما يفسر فشل السياسات النقدية، وغياب رؤية مالية موحدة، وتآكل العملة.
2 *. ضعف الدراسات الاقتصادية المحلية*
بسبب إقصاء الاقتصاديين، لا توجد دراسات وطنية معمقة حول الإنتاج، أو الطلب المحلي، أو سياسات الدعم، أو الفقر، بل تعتمد المؤسسات على تقارير خارجية.
3 *. فقدان البوصلة في إعادة الإعمار*
رؤية "إعادة الإعمار" لا تُبنى إلا على أساس تحليل اقتصادي عميق (مثل نموذج سامويلسون أو هارود دومار للنمو)، ومع ذلك لا نجد اقتصاديين في لجان التخطيط أو التفاوض.
> تقرير البنك الدولي (2023):
"تفتقر اليمن إلى إطار اقتصادي كلي يعكس رؤية وطنية للتعافي، ما يضعف فاعلية المساعدات الدولية وخطط الإنعاش."
*رابعًا: التوصيات*
1. إعادة الاعتبار للعلوم الاقتصادية عبر إلزام الجامعات بدمج الاقتصاد في كافة البرامج الإدارية.
2. تمكين الكفاءات الاقتصادية في مواقع التدريس والتخطيط والقيادة.
3. إعادة هيكلة المناهج الإدارية لتبدأ بالتحليل الاقتصادي ثم تنسحب نحو التطبيق الإداري.
4. إنشاء مراكز بحث اقتصادية مستقلة ترتبط بصانع القرار وتُرفده بالتحليل الكمي والنوعي.
5. إطلاق حملات توعية معرفية عبر الندوات والمؤتمرات تبيّن أهمية علم الاقتصاد في مرحلة التعافي.
إن تهميش الاقتصاد في زمن الأزمات هو بمثابة تهميش للعقل في وقت الحمى. وإذا كانت الأمم تُبنى بالرؤية، فإن هذه الرؤية لا يصوغها إلا من يفهم الاقتصاد. وآن الأوان أن تُنصف اليمن أبناءها الاقتصاديين، لا مجاملة، بل لأن بقاءها ذاته مرهون بعودتهم إلى الواجهة.
د.عبدالرحمن حيدره
أستاذا الاقتصاد المساعد بجامعة الحديدة