كتابات وآراء


الثلاثاء - 17 يونيو 2025 - الساعة 06:33 م

كُتب بواسطة : الإعلامي / منور مقبل - ارشيف الكاتب







في كل منعطف تاريخي حيث تتخذ العنصرية شكلاً جديدًا، تكشف عن قدرتها على إعادة تدوير ذاتها، لا بوصفها موقفًا فرديًا أو تحيزًا عابرًا، وإنما بوصفها نظامًا متكاملًا، يُعاد إنتاجه عبر المؤسسات، ويُستخدم كأداة لترسيخ الهيمنة وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق منطق التراتبية. إننا لا نواجه العنصرية بوصفها مجرد خطاب كراهية معلن، بل كبنية معرفية تُعيد تعريف الإنسان داخل تصنيفات تُحدد موقعه في العالم، بناءً على عناصر لا يملكها ولا يمكنه تغييرها، وليس على أساس كفاءته أو خياراته.

العنصرية حين ظهرت في صورتها الكلاسيكية كانت تستند إلى فرضيات بيولوجية زائفة، تُقرُّ بوجود تفوق فطري لأعراق معينة على أخرى، وكان هذا الادعاء محورًا في خطاب الاستعمار والعبودية والفاشية، حيث بُني النظام الدولي على أساس توزيع السلطة والثروة وفق تصنيف جيني مختلق. لكن مع انهيار هذه التفسيرات علميًا وأخلاقيًا، لم تختف العنصرية، بل أعادت اختراع نفسها تحت أسماء أخرى، فانتقلت من البيولوجيا إلى الثقافة، من ادعاء التفوق الوراثي إلى تمايز الهويات، وبدل أن تُقال كلمة “تفوق”، بات يُقال “خصوصية”، وبدل أن يُقال “دونية”، أصبح الحديث عن “عدم القدرة على الاندماج”. وهكذا استمرت العنصرية في الحياة، متخفية خلف أقنعة تبدو أكثر براءة، لكنها لا تقلُّ عنفًا في آثارها.

العنصرية الثقافية، مقارنة بسابقتها البيولوجية، تحمل خطورة أكبر لأنها لا تُواجه بنفس العنف، بل تُمرر عبر التعليم، والإعلام، والخطاب السياسي، بحيث يتلقاها الناس كجزء من واقعهم، لا كإيديولوجيا مصممة لإقصاءهم. ويظهر هذا الشكل من العنصرية بوضوح في الأنظمة المغلقة التي تسعى إلى بناء سلطتها عبر إعادة تعريف المجتمع نفسه، وتحويل التراتبية إلى جزء من المخيال الجمعي، بحيث يصبح التقسيم الاجتماعي مقبولًا، بل ضروريًا، لتماسك النظام القائم.

وهنا يتجلّى النموذج الحوثي بوصفه أحد أخطر التجليات الحديثة لهذا النمط العنصري، إذ لا تكتفي الجماعة بممارسة السلطة، بل تعيد صياغتها وفق فلسفة الاصطفاء السلالي، وتستند إلى شرعية تُبنى على النسب، لا على الإرادة الشعبية، وعلى الحق الإلهي المزعوم، لا على التعاقد السياسي بين الأفراد والمجتمع. هذه ليست مجرد أيديولوجيا دينية، بل هي إعادة إنتاج لنموذجٍ تاريخي استعلائي يُقسّم البشر إلى طبقات وجودية، يُفرض فيها على الفئة “الأدنى” الطاعة، بينما تُمنح الفئة “المختارة” احتكار الحكم والثروة.

هذا التصور العنصري لا يُعلن عن نفسه بخطاب مباشر، بل يُزرع في الوعي العام عبر الممارسات اليومية التي تعيد ترسيخه. فمصطلح “الزنابيل” الذي يُطلقه الحوثيون على عامة اليمنيين، مقابل “القناديل” الذين ينتمون إلى السلالة الحاكمة، ليس مجرد نعت مهين، بل هو تجسيد لتراتبية اجتماعية صلبة، يُعاد إنتاجها داخل المنظومة التعليمية، وفي إدارة المؤسسات، وحتى في عمليات التجنيد والدفن، حيث يحصل أبناء الجماعة على معاملة استثنائية، بينما يُترك المقاتلون من غير السلالة ليُعاملوا كوقودٍ للحرب، بلا قيمة حقيقية في هرم القيادة.

العنصرية هنا تتجاوز كونها أداة للتمييز إلى كونها منهجًا يُعاد تشكيل المجتمع وفقه، بحيث تصبح فكرة المواطنة في اليمن مشروطة بقبول هذه التراتبية، وبالتماهي مع السردية التي تبررها، وتفرضها، وتعيد إنتاجها في كل مفصلٍ من مفاصل الحياة. وهذا ما يجعل الحوثية تتجاوز النماذج العنصرية الكلاسيكية، لأن العنصرية هنا ليست مجرد موقف، بل هي بنية سلطوية، تستمد مشروعيتها من إعادة تعريف الشعب نفسه، ومن إنتاج تاريخٍ بديل يُقصي فيه كل من لا ينتمي إلى الدائرة الحاكمة، ويُعاد فيه تشكيل مفاهيم السلطة وفق معايير عرقية مغلقة.

إن خطورة هذا النموذج العنصري لا تكمن فقط في ممارساته القمعية، بل في قدرته على الاستمرار، لأنه يستند إلى بنية معرفية تجعل مقاومته صعبة، فالناس لا يُواجهونه بوصفه فكرة قابلة للتفنيد، وإنما قدرًا يُفرض عليهم، وجزءًا من منظومة تُحدد لهم هوياتهم منذ الميلاد. وهذا هو الجذر العميق للهيمنة: أن تُجعل العنصرية جزءًا من الحياة اليومية، وأن تُزال عنها صفة الشذوذ لتصبح قاعدةً لا تُناقش.

في مواجهة هذه البنية العنصرية للحوثية، لا يمكن أن تكون المقاومة مجرد فعل سياسي منفصلة عن المقاومة الفلسفية والفكرية لهذا المشروع، بحيث يعاد التفكير في جذور الهيمنة، وفي كيف تُنتج المعرفة نفسها، وكيف يُعاد تشكيل التاريخ ليخدم سلطةً لا تعترف بالفرد، بل بالدم، ولا تبني الدولة، وإنما تعيد إنتاج العشيرة في ثوبٍ حديث، مُزيّنٍ بخطابات دينية، لكنه لا يحمل جوهرًا إلا جوهر الإقصاء.

إن مواجهة هذا المشروع السلالي الحوثي لا يكون عبر الرفض المباشر، بل عبر تفكيكه، واسترداد المفاهيم التي تم اختطافها، من المواطنة إلى العدالة إلى الحقوق، وعبر استعادة الإنسان لموقعه بوصفه فردًا حرًا، لا تابعًا، قادرًا على الاختيار، لا مُجبرًا على القبول. وهنا يكون التحول الحقيقي، ويبدأ التحرر، لا بزوال القوة العسكرية للجماعة فقط، وإنما بزوال قدرتها على التحكم في العقول، وإعادة تشكيل الوعي وفق مشروعها الإقصائي المغلق.