كتابات وآراء


السبت - 21 يونيو 2025 - الساعة 09:43 م

كُتب بواسطة : الإعلامي / منور مقبل - ارشيف الكاتب








في منابر الأمم المتحدة، وعلى لسان مسؤوليه الكبار، يرفع النظام الإيراني شعارات “احترام السيادة”، ويُندد بأي تدخل خارجي، ويستحضر مفردات القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة كما لو كان حارسًا لشرعية العالم، أو ناطقًا باسم القيم الكونية. لكن كل ما في هذا الخطاب من رصانة ظاهرة ينهار تحت ثقل التجربة، لا فقط التاريخية بل الجارية، حيث لا تجد في منطقة الشرق الأوسط نظامًا انتهك مفهوم السيادة بمثل ما فعلته طهران، لا عبر الغزو المباشر بل بأساليب أكثر خفاءً وعمقًا: اختراق نسيج الدول، إنشاء مليشيات عابرة للحدود، وتفكيك الهويات الوطنية من الداخل.

هذه المفارقة تدعونا إلى مساءلة المفهوم ذاته: ما السيادة؟ ومن يملك الحق في ادّعائها أو الدفاع عنها؟ أليست السيادة، كما تُعرّف فلسفيًا وقانونيًا، تجسيدًا لاستقلالية القرار السياسي، ولحرمة الحدود المادية والمعنوية لأي دولة ذات تمثيل قانوني؟ منذ القرن السابع عشر — مع نشوء الدولة الحديثة وفق تصور هوبز ولوك وروسو — ارتبطت السيادة بحق الشعوب في التمثيل الذاتي، وبالمبدأ القاطع لعدم تدخل دولة في شؤون دولة أخرى تحت أي ذريعة. لكن ما تفعله إيران منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979 يمثّل قطيعة معرفية مع هذا التصور، بل يُقارب “السيادة” بوصفها منطقة نفوذ ثقافي/عقائدي أكثر منها كيانًا قانونيًا معترفًا به.

فمن اللحظة الأولى لانتصار الثورة الخمينية، بُنيت العقيدة السياسية الإيرانية على مبدأ “تصدير الثورة”، لا كشعار بل كأداة تنظيمية مُمأسسة، تتجسد في الحرس الثوري، وفي تشكيل وحدات كـ”فيلق القدس”، تعمل خارج الحدود، وتُعيد تركيب جغرافيا الدولة من داخلها، عبر تسليح جماعات مذهبية موالية، وتغذية سرديات ثقافية تُضعف الرابط الوطني لصالح ما يمكن تسميته بـ”الهوية العقائدية العابرة للسيادات”.

ليس هذا التدخل، كما يُبرّره الخطاب الرسمي الإيراني، فعل تضامن أو دعم للمستضعفين، بل مشروع وصاية حديث، قائم على مبدأ مزدوج: رفض التدخل في شؤون طهران، وتبرير التدخل في شؤون الغير. وهذا هو جوهر الانفصام المفهومي: فحين تطالب طهران باحترام سيادتها، فهي تستدعي “السيادة الكلاسيكية” بوصفها حماية لحدودها من الخارج؛ لكنها حين تتدخل في العراق أو اليمن أو لبنان أو سوريا، فإنها تمارس “السيادة الانبعاثية” بوصفها امتدادًا لشرعية دينية أو ثورية تتجاوز الحدود، وتخترق نظم الدولة نفسها باسم الانتماء المذهبي أو الجبهة ضد الغرب.

هنا يظهر التناقض العميق: فبدل أن تكون السيادة هي المبدأ، تصبح الاستثناء. وبدل أن تكون حقًا للشعوب، تصبح ورقة ضغط تُرفع حين تكون في موقع الاتهام، وتُسقط حين تكون في موقع الفعل. وهكذا، يُفرغ المفهوم من معناه، ويُحوّل إلى أداة خطابية لا توازيها ممارسة على الأرض.

لكن لا يكفي أن نكشف التناقض بين الخطاب والسلوك؛ علينا أن نفهم ما ينتج عن هذا التوظيف الانتهازي للمفاهيم. فالخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في انتهاك سيادة الدول، بل في تفريغ القانون الدولي من محتواه، وفي تحويل المفاهيم الكونية إلى أوراق دعائية، تُستخدم لحماية نظام يقوّض الأساس الفلسفي الذي بُني عليه النظام الدولي الحديث. حين تفقد “السيادة” معناها الحيّ، تتحوّل الدول إلى مسارح مفتوحة للتلاعب الرمزي، وتُصبح الهويات الوطنية عرضة للتآكل من الداخل، لا عبر الاحتلال التقليدي بل عبر تخليق ذات موازية: مرتبطة أيديولوجيًا بالخارج، ومفصولة وجدانيًا عن بنيتها السياسية الأصلية.

وهنا نصل إلى ما يمكن تسميته بـ”أزمة الشرعية الأخلاقية للخطاب الإيراني”: إذ لا يمكن لنظام يرعى الانقلابات ويؤسّس للفراغات الأمنية، ويعيد تشكيل الجغرافيا عبر العنف المُقنن، أن يتحدث عن احترام القانون الدولي دون أن يُفتَضح منطقه الداخلي. بل إن هذا الاستخدام المتناقض لمبدأ السيادة، يُعيدنا إلى المعضلة التي طرحها باومان وبورديو وغيرهم: حين تتحول اللغة إلى غطاء للفعل السلطوي، يفقد الفعل السياسي أي إمكانية للمساءلة، ويتحوّل العالم إلى فضاءٍ من السرديات المفكّكة التي تُسهم في تكريس العنف باسم القانون، وتُعيد إنتاج الفوضى بلسان النظام.

خاتمة القول: إذا كانت إيران تطالب باحترام سيادتها، فعليها أولًا أن تُعيد النظر في سلوكها الخارجي، لا بوصفه “استراتيجية جيوسياسية”، بل بوصفه نقيضًا لمفهوم السيادة ذاته. وإذا كانت تعتبر نفسها ضحية لمشاريع دولية، فعليها أن تتوقف عن تمثيل دور القاتل بوصفه منقذًا. فالسيادة، كما تعلّمتها البشرية عبر قرون الدم، لا تتجزأ، ولا تُوظّف، ولا تُباع للمزايدة. هي مبدأ كوني لا ينتصر إلا حين يُطبّق بالتساوي، ويُحترم لا حين يخدم المصلحة، بل حين يقيّدها.

إن أخطر ما في الخطاب الإيراني بشأن السيادة، أنه يُعيد إنتاج الاستعمار لا مقاومته، ويُفرغ القانون الدولي من مضمونه لا يستدعيه، ويُلبِس التوسّع القسري لباس “الحق الطبيعي”. والمفارقة أن النظام الإيراني، الذي يُعلن رفضه للهيمنة الغربية، قد ابتكر منظومته الخاصة من الهيمنة، مبنيّة لا على الأساطيل ولا على القواعد العسكرية، بل على الطائفة، والمليشيا، والسردية المعكوسة.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح بوضوح: متى يتحوّل الاحتجاج على الظلم إلى تبرير لممارسة ظُلم من نوعٍ آخر؟ ومتى يصبح الدفاع عن السيادة، في الخطاب، ذريعة لاغتيالها في الفعل؟

في لحظة كهذه، لن يُنقذ مفهوم السيادة إلا عودة إلى جذره الأخلاقي–الفلسفي: احترام الحدود بوصفها ترجمة لاحترام الإرادة الجمعية، وكبح التوسّع بوصفه شرطًا للسلام، والاعتراف بأن حقّك في أن تُحكَم كما تشاء لا يمنحك تفويضًا لأن تحكم غيرك كما تريد.