الأحد - 17 أغسطس 2025 - الساعة 04:48 م
فلسطين :
الجرح المفتوح ودرس الشرعية العالمية
فلسطين كجرح مفتوح :
مختبر الإنسانية وسقوط القيم
في قلب الجغرافيا العربية، حيث تتقاطع الذاكرة بالتاريخ وتتشابك الأرض بالهوية، يقف الشعب الفلسطيني اليوم شاهداً على مأساة إنسانية غير مسبوقة في العصر الحديث :
قصف لا يهدأ، حصار يُحوّل الحياة إلى سجن كبير، تجويع ممنهج يُحوّل الخبز إلى حلم، واحتلال متواصل يلتهم الأرض شبراً شبراً، فيما الاستيطان يتسارع كآلة صامتة لإعادة تشكيل الجغرافيا والتاريخ معاً .
إنّ ما يحدث في غزة والضفة لم يعد نزاعاً عسكرياً بين طرفين غير متكافئين، بل إبادة جماعية بطيئة ومخطط لها بعناية، حيث يتحول الجوع إلى سياسة، والحرمان إلى أداة، والتهجير إلى مشروع استراتيجي .
هذه ليست حرباً على جغرافيا محدودة، بل معركة على معنى الإنسانية نفسه :
هل يظل الإنسان قيمة بحد ذاته، أم يصبح مجرد تفصيل صغير في معادلة المصالح الدولية ؟
فلسطين إذن ليست مجرد أرض محتلة، وليست مجرد مأساة محلية ؛ إنها جرح مفتوح في قلب العالم، يفرض على البشرية جمعاء اختباراً حاسماً لحدودها الأخلاقية والسياسية .
هنا، عند بوابة غزة المحاصرة والقدس المهددة والضفة المبتورة، يُعاد تعريف العدالة، وتُختبر مصداقية النظام الدولي، ويُكتب من جديد معنى أن تكون إنساناً في زمن تتفكك فيه القيم أمام سطوة القوة .
الغرب وازدواجية المعايير :
سقوط الأخلاق قبل السياسة
لطالما سوّق الغرب لنفسه باعتباره حامل مشعل الحرية وراعي حقوق الإنسان، من باريس إلى واشنطن، ومن بروكسل إلى برلين .
لكنّ المشهد الفلسطيني عرّى هذه السردية حتى الجذور .
ففي أوكرانيا، تنهال المساعدات بلا حدود، تُفتح الأبواب للاجئين، وتُستنهض القيم الغربية كلها دفاعًا عن “السيادة” و” الكرامة ” .
أما في فلسطين، فإنّ صور الأطفال تحت الأنقاض لا تثير سوى بيانات باردة، والحصار والتجويع يُقدّمان كـ”ضرورات أمنية”، بينما تُمنح آلة الاحتلال الغطاء السياسي والعسكري بلا تردد .
هذه ليست ازدواجية بسيطة في المواقف، بل انهيار أخلاقي متكامل لمنظومة قيم ادّعى الغرب حمايتها منذ الحرب العالمية الثانية .
إنّ المشهد الفلسطيني يكشف أن تلك القيم لم تكن يومًا عالمية، بل كانت أدوات براغماتية تُفعَّل حين تخدم مصالح القوة، وتُعطَّل متى ما اصطدمت بميزان السياسة .
وهنا، تسقط أوروبا وأميركا ليس فقط في امتحان فلسطين، بل في امتحان ذاتها أمام التاريخ .
التجويع كسلاح :
حين تتحول الحياة إلى أداة ابتزاز
ما يجري في غزة ليس مجرد حصار اقتصادي، بل استراتيجية كاملة للتجويع والإذلال .
إغلاق المعابر، منع دخول الغذاء والدواء، تدمير البنية التحتية للمياه والكهرباء، وتحويل المستشفيات إلى أطلال لا تصلح حتى كملاجئ … كلها عناصر في منظومة محسوبة بدقة تهدف إلى تحويل البقاء نفسه إلى معركة يومية خاسرة .
إنّ تجويع الفلسطيني لا يهدف فقط إلى تركيعه، بل إلى إعادة صياغة وجوده :
أن يتحول من مواطن صاحب حق إلى إنسانٍ يبحث عن رغيف خبز أو جرعة دواء، فتتآكل ذاكرته الوطنية وينكسر وعيه الجمعي. لكنّ المفارقة المدوّية أن هذا السلاح، الذي جُرّب عبر التاريخ من حصار لينينغراد إلى رواندا، لا يُنتج في فلسطين الاستسلام بل يُعيد إنتاج المقاومة، حيث تتحول الغريزة الإنسانية في البقاء إلى فعل سياسي يومي، وتتحول المجاعة إلى وثيقة إدانة أخلاقية للنظام الدولي بأسره .
في غزة، أصبح الجوع لغة جديدة للحرب، ووسيلة لإدارة الصراع، ورسالة للعالم :
هنا تُختبر إنسانيتكم، في أمعاء فارغة، وأطفال يتنفسون الموت قبل الحليب .
الاستيطان وقضم الأرض :
جغرافيا تتحوّل إلى أداة إبادة
في الضفة الغربية والقدس، لا تُقاس الحرب بالرصاص وحده، بل بالجرافات التي تلتهم التلال، والمستوطنات التي تنمو كأورام في جسد الأرض .
إنّ الاستيطان ليس مجرد سياسة إسكان، بل مشروع إبادة جغرافية يسعى إلى محو الهوية المكانية للفلسطيني، وتحويله إلى غريب داخل وطنه .
كل بيت يُهدم، كل مزرعة تُجتث، كل طريق يُقطع، ليس سوى خطوة في استراتيجية شاملة تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني وإلغاء قدرته على البقاء المتماسك .
لقد تحوّل قضم الأرض إلى عملية بطيئة ولكنها لا تقل وحشية عن القصف ؛ إذ يتم تكريس واقع جديد على الأرض يجعل من “الحل السياسي” سرابًا بعيدًا .
وهنا تكمن خطورة المشروع :
فبينما ينشغل العالم بمشاهد الدمار في غزة، يجري في الضفة إلغاء تدريجي لفلسطين نفسها من الخريطة، عبر هندسة ديموغرافية وجغرافية تفرض واقعًا لا رجعة فيه .
بهذا المعنى، يصبح الاستيطان الوجه الآخر للإبادة :
إبادة مكانية لا تُمارَس عبر قتل الأجساد فقط، بل عبر طمس المكان، محو الذاكرة، وتغيير الجغرافيا .
إنه ليس نزاعًا على الأرض فحسب، بل على الحق في الوجود ذاته .
غزة تحت الركام :
مدينة تُمحى من الجغرافيا البشرية
غزة اليوم ليست مجرد ساحة قتال، بل جغرافيا تُمحى بالكامل .
الأحياء السكنية التي تحولت إلى أطلال، المدارس التي أصبحت مقابر جماعية، المستشفيات التي تهاوت على جرحاها، والطرق التي انقطعت أوصالها … كل ذلك لا يعبّر فقط عن دمار عابر بفعل الحرب، بل عن مخطط منهجي لتحويل غزة إلى فراغ عمراني وبشري في آنٍ معًا .
الدمار هنا ليس نتيجة جانبية، بل أداة مركزية في المعركة؛ إذ يُراد لغزة أن تُخرَج من سياقها كمدينة قابلة للحياة، لتتحول إلى مساحة ميتة، بلا بنية تحتية، بلا مقومات بقاء، بلا أفق .
فحين يُدمَّر البيت، تُدمَّر معه العائلة، وحين تُمحى المدرسة، يُمحى معها جيل كامل من الذاكرة، وحين تُسحق المستشفيات، يصبح الحق في الحياة نفسه هدفًا للحصار .
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى دمار غزة بوصفه مجرد “خسائر مادية”، بل كجزء من مشروع إبادة وجودية .
إنها محاولة لإخراج فلسطين من حيز الممكن، وإقناع العالم بأن غزة لم تعد مدينة، بل عبء، وأن الفلسطيني لم يعد إنسانًا، بل “ مشكلة ” .
وهنا تتجاوز الجريمة حدود القتل المباشر لتصل إلى قتل المكان والزمان معًا .
الحصار والتهجير :
اقتلاع الإنسان من تاريخه
منذ أكثر من سبعة عقود، يعيش الفلسطيني بين خيارين مفروضين :
الحصار أو التهجير .
في غزة، يأخذ الحصار شكله الأكثر قسوة :
شريط ضيق محاصر بحرًا وبرًا وجوًا، حيث يتحول الدخول والخروج إلى امتياز سياسي، ويُختزل الحق في الحياة في شاحنة مساعدات تنتظر إذن عبور .
لكنّ هذا الحصار ليس مجرد تضييق جغرافي، بل سلاح استراتيجي يهدف إلى تفكيك المجتمع من الداخل، عبر إفقاده مقومات البقاء وتحويل الحياة إلى عبءٍ يومي .
أما التهجير، فهو الوجه الآخر للعملة ذاتها :
من النكبة عام 1948 إلى حروب غزة المتعاقبة، ظل الفلسطيني يُدفع دفعًا إلى مغادرة أرضه تحت ضغط الموت والدمار .
إنّ الحديث المتكرر عن “خيار الترحيل” أو “إعادة التوطين” ليس زلة لسان في الخطاب الإسرائيلي، بل هو امتداد لسياسة قديمة :
اقتلاع الإنسان من تاريخه، وفصله عن ذاكرته الجمعية، وتحويله إلى لاجئ أبدي .
في هذا السياق، يصبح الحصار ليس مجرد جدار أسمنتي أو معبر مغلق، بل سجنًا مفتوحًا يتآمر مع فكرة التهجير على سلب الفلسطيني جوهر هويته .
فالاحتلال لا يكتفي بقتل الجسد أو محو المكان، بل يسعى إلى تفريغ الروح من انتمائها، ليغدو الفلسطيني بلا أرض، بلا بيت، وبلا ذاكرة متجذرة .
وهنا تتجلى الجريمة الكبرى :
تحويل شعب بأكمله إلى “زائد عن الحاجة” في رواية العالم .
انهيار الشرعية الأخلاقية الغربية :
فضيحة القرن
ليست مأساة فلسطين مأساة الفلسطينيين وحدهم، بل فضيحة أخلاقية كبرى للعالم الغربي الذي بنى سرديته منذ الحرب العالمية الثانية على شعارات “الحرية” و“حقوق الإنسان” و“كرامة الفرد” .
غير أنّ ازدواجية المعايير التي تجلّت في أوضح صورها أمام جثث أطفال غزة وجوعى المخيمات، كشفت أن هذه القيم ليست عالمية، بل أدوات انتقائية تُفعَّل حين تخدم المصالح، وتُعطَّل حين يكون الضحية عربيًا أو مسلمًا .
لقد أصبحت صور الركام في غزة، والجثث التي تُنتشل من تحت الأنقاض، والأطفال الذين ينامون على بطون خاوية، مرآة تعكس زيف الخطاب الغربي، وتفضح التحالف العضوي بين القوة العسكرية الإسرائيلية والدعم السياسي الغربي .
لم يعد بوسع واشنطن أو بروكسل أن تدّعي الدفاع عن “النظام الدولي القائم على القيم”، وهي في الوقت نفسه تمنح الغطاء بلا حدود لآلة حرب تحوّل المدنيين إلى أرقام في قوائم الموت .
بهذا المعنى، لم يخسر الغرب في فلسطين صورته أمام شعوب الجنوب العالمي فحسب، بل خسر أيضًا أساسه الأخلاقي أمام ذاته .
فكيف يمكن لمن يشرّع الموت أن يواصل ادعاء قيادة العالم ؟ وكيف يمكن لمن يغضّ الطرف عن إبادة معلَنة أن يقنع الأجيال القادمة بأن العدالة والكرامة مبادئ لا تسقط بالتقادم ؟
إنّ فلسطين اليوم ليست مجرد مأساة، بل شهادة تاريخية على سقوط منظومة القيم الغربية، وربما إيذان ببدء عصر جديد تُعيد فيه الإنسانية صياغة مفهوم العدالة بعيدًا عن احتكار الغرب لها .
فلسطين كاختبار تاريخي …
للنظام الدولي
القضية الفلسطينية تجاوزت حدودها الجغرافية لتصبح اختبارًا مصيريًا للنظام الدولي بأسره .
فالمسألة لم تعد مجرد نزاع محلي أو إقليمي، بل امتحان جوهري لمصداقية المنظومة التي تدّعي حماية السلم والأمن العالميين .
إنّ سؤال اليوم لم يعد : “من يقف مع فلسطين؟” بل : “هل القيم التي يدّعيها العالم المعاصر صالحة للجميع، أم أنها امتياز يُمنح للبعض ويُحجب عن البعض الآخر؟ ” .
هذا الاختبار التاريخي يضع الأمم المتحدة، والمؤسسات الحقوقية، والعواصم الغربية أمام مرآة قاسية .
فإذا كان الفلسطيني — الذي يواجه الإبادة والتجويع والاقتلاع — لا يستحق حماية القانون الدولي، فمن يستحق إذن؟ وإذا كان الاحتلال الممنهج والاستيطان المتسارع لا يُعرّف كجريمة، فما الذي يبقى من تعريفات العدالة الإنسانية؟
إنّ الإجابة التي يسجلها التاريخ اليوم ستحدد معالم القرن الحادي والعشرين :
إما استمرار عالم القوة العارية حيث تُختزل الحقوق إلى امتيازات محمية بالقوة العسكرية، أو ولادة عالم جديد أكثر تعددية، يتجاوز احتكار الغرب لمفاهيم الشرعية والقيم .
وفي كلتا الحالتين، تبقى فلسطين المحكّ الأبرز لمستقبل النظام الدولي، إذ تكشف حدود قدرته على الصمود أمام الحقائق العارية للظلم .
التداعيات الاستراتيجية :
عالم يتغيّر
ما يجري في فلسطين لا يقتصر على كونه مأساة إنسانية، بل هو زلزال جيواستراتيجي يعيد تشكيل موازين القوى الدولية .
فازدواجية المعايير الغربية، التي بلغت ذروتها في التواطؤ مع الجرائم الإسرائيلية، فتحت الباب أمام تحولات عميقة يمكن تلخيصها في أربعة مسارات أساسية :
1- تراجع الثقة بالأمم المتحدة :
حين يُستخدم “الفيتو” مرارًا لحماية الجلاد، بينما يُترك الضحايا لمصيرهم، تفقد المنظمة الدولية ما تبقى من هيبتها، وتتحول إلى مسرح للخطابات بدل أن تكون أداة لتحقيق العدالة .
2- صعود قوى بديلة :
روسيا، الصين، وإيران، ومعها قوى إقليمية في الجنوب العالمي، تسعى لاستثمار لحظة الانكشاف الغربي لتقديم نفسها كمدافع عن الشعوب المقهورة، وهو ما يسرّع الانتقال نحو نظام دولي متعدد الأقطاب .
3- إعادة تشكيل التحالفات :
الشارع العربي والإسلامي، ومعه قوى واسعة من أفريقيا وأميركا اللاتينية، بدأ يعيد النظر في علاقاته بالغرب، ويفتح الأبواب أمام تحالفات جديدة تقوم على الندية لا التبعية، ما يعني تفكك الروابط التقليدية التي ربطت لعقود بين العواصم العربية والغرب .
4- تآكل القوة الناعمة الغربية :
الجامعات، الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني الغربية تواجه أزمة شرعية غير مسبوقة .
لم يعد بإمكانها تبرير الفجوة الفاضحة بين الخطاب والممارسة، الأمر الذي يضعف النفوذ الثقافي والفكري الغربي على المدى الطويل .
إنّ هذه التداعيات مجتمعة تشير إلى أن فلسطين لم تعد قضية محلية أو حتى إقليمية، بل محركًا لإعادة تشكيل النظام الدولي، وربما العلامة الأبرز على أفول عصر الهيمنة الغربية المطلقة .
الخلاصة :
فلسطين، الجرح المفتوح …
ونقطة التحوّل التاريخي
فلسطين اليوم ليست مجرد أرض محتلة أو شعب مُعذب، بل مرآة تكشف زيف القيم العالمية، واختبارًا صارخًا لقدرة النظام الدولي على الوفاء بعهوده الإنسانية .
كل قصف، كل حصار، كل مستوطنة تُبنى على أرض فلسطينية، وكل طفل يُدفن جائعًا، هو شهادة على انهيار الشرعية الأخلاقية الغربية، وعلى فشل مؤسسات العالم في حماية الحقوق الأساسية .
لكن في المقابل، هذا الجرح المفتوح أصبح نقطة تحوّل تاريخية :
اختبار عالمي لإرادة العدالة، فرصة لإعادة صياغة التحالفات، وإعادة تحديد موازين القوة بين الشمال والجنوب، بين قوى الهيمنة وقوى المقاومة .
فلسطين ليست فقط مأساة، بل رمز حي للكرامة الإنسانية والحق في المقاومة من أجل البقاء .
إنّ ما يحدث اليوم سيُسجَّل في التاريخ ليس كصفحة سوداء لفلسطين وحدها، بل كدرس صارخ للعالم : العدالة لا تُفرض بالقوة، والقيم لا تُستباح بالانتقاء .
وبذلك، تبقى فلسطين — رغم كل الدمار والدموع والمعاناة — نبراسًا حيًا لإرادة الإنسان على الحياة والكرامة، وجسرًا يربط بين الماضي والحاضر، بين الحق والضمير العالمي .
فلسطين هي المعلمة التي تذكّر الأمم أن العدالة لا تُقاس بالقدرة العسكرية ولا تُحتكر بالمصالح السياسية، وأن الحق سيظل حاضرًا، وإن طال الليل، وأن التاريخ لا يرحم من تواطأ مع الظلم .
فلسطين، إذاً، ليست مجرد جغرافيا، بل روح تتحدى الطغيان، وصرخة إنسانية لا تهدأ، تزرع الأمل في قلب كل من يؤمن بالحرية والكرامة .
https://www.facebook.com/share/v/14HYRrZSdUV/?mibextid=wwXIfr