الأحد - 14 سبتمبر 2025 - الساعة 04:51 م
تعدّ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962 في اليمن لحظة تأسيسية فارقة في مسار تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، إذ مثّلت قطيعة معرفية وسياسية مع نظام الإمامة الزيدية الذي حكم شمال اليمن لقرون طويلة، مستندًا إلى شرعية دينية سلالية تقوم على تأويل خاص للنص الديني، وإنتاج السلطة من خلال النسب والمقدّس. هذه الثورة لم تكن مجرد حدث سياسي عابر، بل كانت تعبيرًا عن تحوّل بنيوي في الوعي الجمعي اليمني، وسعيًا حثيثًا نحو بناء دولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة المتساوية، والمؤسسات، والدستور، في مقابل نظام تقليدي قائم على الامتيازات الطبقية والانتماءات السلالية.
تحليل هذه الثورة يتطلب تجاوز السرديات التاريخية التقليدية، والانخراط في قراءة سوسيولوجية تُعيد تأطيرها ضمن سياق الصراع التاريخي على الشرعية والهوية في اليمن. فالإمامة الزيدية، بوصفها منظومة سلطوية كهنوتية، لم تكن مجرد نظام حكم، فقد كانت بنية معرفية تعيد تشكيل المجال السياسي والاجتماعي وفقًا لمنطق الإقصاء والتمييز، حيث يُمنح الحق في الحكم لفئة محددة بناءً على النسب، ويُقصى الآخرون من المجال العام، وإنتاج التراتبية الاجتماعية من خلال الدين. وقد أدى هذا النموذج إلى تعطيل مسار التحديث، وإلى تكريس الانقسام الاجتماعي، وإلى إضعاف فكرة الدولة بوصفها كيانًا جامعًا يتجاوز الانتماءات الضيقة.
ومن هنا، جاءت ثورة سبتمبر بوصفها فعلًا تحرريًا يستهدف تفكيك هذه البنية الكهنوتية، وإعادة بناء الدولة على أسس مدنية حديثة، تراعي التعدد، وتُرسّخ الانتماء الوطني، وتعيد الاعتبار للمشترك اليمني. غير أن هذا المشروع لم يكتمل، إذ واجه تحديات بنيوية تتعلق بضعف مؤسسات الدولة، وتداخل الولاءات القبلية والمناطقية، وتراجع الخطاب الجمهوري، وتحول النظام السياسي إلى بنية سلطوية مغلقة قائمة الامتيازات، واقصاء القوى الاجتماعية الجديدة، وتفريغ الثورة من مضامينها التحررية.
إن عودة الإمامة بصيغة جديدة، ممثلة في جماعة الحوثي، تمثل ارتدادًا عن المشروع الجمهوري، وانقلابًا على الثورة، وإعادة لإنتاج المنظومة الكهنوتية التي ثار عليها اليمنيون قبل نصف قرن. هذه العودة لا تتم من خلال استعادة النموذج التقليدي فحسب، وإنما من خلال توظيف أدوات جديدة، تجمع بين الخطاب الديني والممارسة العسكرية، وتُعيد تشكيل الشرعية من خلال القوة، لا من خلال الإجماع. وهي بذلك تعيد تشكيل الهوية الوطنية على أساس مذهبي وسلالي، وتقصي المكونات الأخرى، وتهدّد وحدة الدولة، وتفكّك النسيج الاجتماعي.
إن الصراع في اليمن لم يكن يوما مجرد صراع سياسي على السلطة، بل هو صراع على تعريف الوطن، وعلى من يملك الحق في الحكم، وطبيعة العلاقة بين الفرد والدولة. وهو صراع بين مشروعين: مشروع الدولة الوطنية الحديثة، ومشروع السلطة الدينية السلالية. وقد ظل هذا الصراع يتجدد عبر التاريخ، ويتخذ أشكالًا مختلفة، لكنه يحتفظ بجوهره: الصراع على الشرعية، وعلى الهوية، وعلى إعادة تشكيل المجال السياسي والاجتماعي وفقًا لمنطق المواطنة أو منطق الامتياز.
من منظور نظريات الهوية، فإن هذا الصراع يُعبّر عن أزمة في بناء الهوية الوطنية الجامعة، وعن فشل في إنتاج سردية وطنية توحّد اليمنيين، وتُعيد تشكيل الانتماء على أساس المواطنة، لا على أساس السلالة أو المذهب. وهو ما يجعل من ثورة سبتمبر ليس فقط حدثًا تاريخيًا، بل مشروعًا مستمرًا، يتطلب إعادة التفعيل، وإعادة التأسيس، في مواجهة محاولات الارتداد والطمس.
كما أن البعد الإقليمي والدولي للصراع يعقّد المشهد، إذ تُوظّف الجماعات الدينية المسلحة في صراعات النفوذ، وتُستخدم كأدوات لإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية، وهو ما يُطيل أمد الأزمة، ويُحوّلها من صراع داخلي إلى صراع إقليمي-دولي، تتداخل فيه المصالح، وتتشابك فيه الأجندات، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم الشرعية والسيادة والهوية وفقًا لمنطق القوة، لا وفقًا لمنطق التوافق الوطني.
إن استعادة المشروع الجمهوري لا تعني فقط العودة إلى لحظة الثورة، بل تعني إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تُراعي التحولات الاجتماعية، وتُعيد الاعتبار للمواطنة، وتُؤسس لفضاء عمومي يُتيح التعدد، ويُرسّخ التعايش، ويُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والدولة على أساس الحقوق والواجبات، لا على أساس الولاءات الضيقة. وهي مهمة تاريخية تتطلب إرادة سياسية، ورؤية ثقافية، وجهدًا تربويًا، ومشاركة مجتمعية واسعة، تُسهم في إعادة بناء الهوية الوطنية، وفي ترسيخ قيم الجمهورية، وفي تجاوز الانقسامات، وفي استعادة التوازن الحضاري.
الثورة، بهذا المعنى، فعل مستمر، ومشروع مفتوح، وأفق للتحرر، ومهمة لبناء الدولة، وتحقيق العدالة، واستعادة الوطن. وهي بذلك تُشكّل أحد أهم مفاتيح فهم الصراع في اليمن، وأحد أبرز مداخل الحل، وأحد أكثر القضايا إلحاحًا في سياق إعادة بناء الدولة، واستعادة السلم الاجتماعي، وتأسيس مستقبل يتجاوز الماضي، ويُعيد الاعتبار للإنسان، وللحق، وللوطن.