وكالات

الإثنين - 04 يناير 2021 - الساعة 11:10 ص بتوقيت اليمن ،،،

القاهره

رغم أن أعياد الميلاد تمثل أحد مواسم التيار السلفي المفضلة التي اعتاد رموزه على استغلالها للترويج لفتاوى تحريم الاحتفال بها، إلا أن أصوات دعاته خفتت هذا العام مقارنة بأعوام سابقة كثفوا فيها الحضور الدعائي ضد من يشارك الأقباط أعيادهم ويهنئهم بها.

وجد عبدالله رشدي، وهو أزهري وخطيب مسجد متشدد جرى عزله عن الخطابة، ويتفاعل معه جمهوره عبر قناته على يوتيوب، الساحة فارغة فأصدر فتاوى تحريم الاحتفال والتهنئة بأعياد الميلاد، ما دفع الإعلامي حمدي رزق، للقول إن المصريين ارتاحوا من فتاوى ياسر برهامي، أحد قيادات السلفية بالإسكندرية، فأتى رشدي لينغص عليهم هذه المواسم.

وظل إطلاق فتاوى تحريم تهنئة المسيحيين من قبل دعاة السلفية طقسًا سنويًا مع الاحتفالات كل سنة ميلادية جديدة، وأصبح ضمن العديد من مظاهر التسلف المنتشرة في ربوع مصر كدلالة على تغلغل هذا التيار وانتشاره في الأوساط الشعبية، بجانب مظاهر الغضب وربما التحريض على العنف والصدام عند سماع خبر ترميم كنيسة أو بناء أخرى جديدة.

وينتقد المصريون بقسوة تصورات دعاة السلفية بعد أن رُفع الغطاء عن حقيقتهم المخفية، ويؤشر انزواء دعاتها وشيوخها خلال أحد أهم المواسم التي اعتادوا على تصدر المشهد فيها، على تصدي الخلايا المجتمعية التي كانت هدف الخطاب الشعبوي الأصولي لما يعكر صفو الناس من دعايات وفتاوى مسيسة، سعى مروجوها ليكون الفصام جزءًا من تكوين وعي المصريين.

يعكس تراجع مظاهر انتشار السلفية في المجتمع المصري، مقارنة مع سنوات صعود هذا التيار لدى الشباب والفئات العمرية المتوسطة، معاناة الحالة السلفية من فتور مجتمعي، نتيجة انفصال رموزها ودعاتها عن الواقع وعن هموم ومعاناة الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وعزوف الغالبية من المواطنين عن خطاب وطرح مجمل تيار الإسلام السياسي.

وأدى تضاؤل تأثير وحضور التيار السلفي في معقله الرئيسي بالمملكة العربية السعودية جراء التحولات والإصلاحات التي تقوم بها الرياض، إلى فقدانه جاذبيته ونفوذه المعهودين، بالنظر إلى الروابط والعلاقات التي جمعت بين سلفيي مصر وداعميهم فكريًا وماديًا التي ظلت أحد أقوى عوامل استمرارهم بالمشهدين الدعوي والاجتماعي، وتاليًا السياسي.

ودل فقدان التيار السلفي فاعليته عقب ما جرى من تحولات مؤثرة بالسعودية، على هشاشة تكوين هذا التيار وعدم تجذره في البيئة المحلية بالنظر لطبيعة التدين البسيط القريب للتصوف والكاره للتشدد والتطرف.

وظل هذا التيار معتمدًا في حضوره ونشاطه على النفوذ المكتسب من الدعم المعنوي والمادي من الخارج، والتوظيف السياسي في الداخل، ما أدى إلى تراجع تأثيره بعد خلخلة أسسه وقواعده في السعودية، وافتقاره للتأييد الذي حظي به خلال فترة حكم الإخوان القصيرة، وهامش الحرية النسبي الذي تمتع به في أثناء فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الطويلة.

يفتقد السلفيون اليوم للتوظيف في الواقع المصري، حيث كانت الحالة السلفية ملحة لجماعة الإخوان في مواجهة المعسكر الليبرالي والقومي والناصري، في ضوء الشعبية التي كان يجذبها الخطاب السلفي، ليس فحسب من الذين ترغب جماعة في الحصول على أصواتهم الانتخابية أو من الجماهير المتدينة بوجه عام، فضلا عن قواعد وقيادات الجماعة نفسها بالنظر للاختراق السلفي لتنظيم الإخوان.

وكانت نسخة الإسلام ذات الصبغة الوسطية تراجعت منتصف السبعينات من القرن الماضي، مع صعود النزعة السلفية مصحوبة بمظاهر التدين المنقوص.

لقب الرئيس الرئيس الراحل أنور السادات، بالرئيس المؤمن، ما أعطى انطباعًا بأنه يقدم نفسه كرئيس للمسلمين فقط، ما منح السلفيين فرص التمدد والاستعلاء على الآخرين تحت مزاعم التميز الديني.

وشهدت هذه المرحلة التي امتدت من حكم السادات (1970) حتى سقوط حكم جماعة الإخوان في يونيو 2013 ذروة نفوذ التيار السلفي الذي استغل هذه التطورات لتأسيس إمبراطورية مالية متشعبة، محققًا أرباحًا طائلة على خلفية الاستثمار في شركات السياحة الفاخرة التي تسير رحلات الحج والعمرة والعطور وملابس المحجبات وغيرها.

ورغم ما حققه السلفيون من انتشار واسع خلال فترة محدودة بمختلف المحافظات المصرية، فإنهم لم يمتلكوا خلال كل المراحل رؤية متماسكة أو مشروعًا متكاملًا يمكنهم من تجذير حضورهم وتكريسه في قلب المجتمع بمعزل عن استفادتهم من توظيفهم من قبل بعض الأنظمة لهم.

وتمسك دعاة السلفية بصيغة منغلقة لم تتماش مع اجتهادات الإصلاحيين، وركزوا على مظاهر التدين الشكلي، مثل وجوب إطلاق اللحى وعدم المصافحة بين الرجل والمرأة ووجوب ارتداء النقاب وبقاء المرأة في المنزل وعدم عملها وحرمة اختلاطها بالرجال.

وتمحورت المناهج السلفية التي تم تقديسها وجعلها في مقام الثوابت التي لا تمس بوصفها عقيدة سلفية ينبغي أن تسود أوساط المسلمين حول مفاهيم الكفر بالطاغوت والحاكمية العقائدية والولاء والبراء والمفاصلة العقدية والاجتماعية مع المسيحيين والمختلفين عقائديا والتنابذ والصراع مع القوى السياسية والاجتماعية والفكرية الناشطة.

لم يملك السلفيون في المقابل مشروعًا سياسيًا ولا برنامجًا إصلاحيًا ولا رؤية مستقبلية وحشروا في سياق الماضي وزمنه، دون الخوض في مشكلات المجتمع أو الإسهام في تخفيف معاناة الشباب، أو الإسهام العملي في إيجاد حلول للقضايا الملحة.

ويتضح من خلال عقد مقارنة بين وضع التيار السلفي اليوم ووضعه في الماضي أنه جرى نفخ كبير في ظاهرة السلفيين ولدورهم في الوقائع والتحولات السياسية التي جرت منذ العام 2011، استنادًا للتوظيف المتعدد الأوجه من أكثر من جهة لهم، وللخبرات الدعائية والخطابية عبر آلة إعلامية تمرس دعاة السلفية في استخدامها منذ مرحلة شرائط الكاسيت مرورًا بالفضائيات وحتى غزوهم لوسائل التواصل الاجتماعي.

والمتغير الآن أن الدولة المصرية لم تعد متحمسة للاستفادة من ثقل السلفية الدعوي الذي شكّل في مراحل سابقة فرصة لها كي تقوم بشغل مساحة من الفضاء الديني المفتوح على مصراعيه، لا تستطيع مؤسسات الدولة الرسمية شغله بينما تتمدد فيه قوى مناوئة للدولة.

ولم يعد تجذر الصراع العلماني الإسلامي واتخاذه أبعادًا اجتماعية وسياسية مناسبًا لمرحلة تحرص الدولة المصرية خلالها على تحقيق تجفيف فعلي للمنابع الفكرية للتطرف والإرهاب التي طالما تغذت على تلك الثنائيات الصراعية.

وليس مطلوبًا دور التشويش الذي كان يمارسه السلفيون بمواقفهم ومزايداتهم وفتاواهم الغريبة أحيانًا على الحركات الإسلامية الأخرى، خاصة التي تشتغل بالعمل السياسي كالإخوان، مع ما اتخذته الدولة من إجراءات أنهت بها النشاط السياسي لتلك الجماعات.

وفي فضاء لا يجد فيه السلفيون لمن يوجهون سهامهم ضده من فصائل إسلامية منافسة، مثل جماعة الإخوان وغيرها من فصائل السلفية الحركية الحليفة مع الإخوان، صارت فتاوى السلفيين الشاذة وآرائهم المتطرفة ومزايداتهم الفجة موجهة للمجتمع ذاته وعامة الناس وللتيار المدني على اختلاف انتماءاته، ما جعلهم عبئًا على هذه المرحلة التي غلبت عليها الرغبة في التحول إلى فضاء متحرر من الحمولات الطائفية والأيديولوجية الضيقة.

وأثبتت تجربة السنوات الماضية أنه من الصعب على التيار السلفي بلورة فضاء ديني ومجتمعي يتحول إلى بديل عن الأيديولوجيات الجهادية والتكفيرية، لأنه تيار قريب في الأصول والقواعد المؤسسة له مع التيارات الأشد تطرفًا وتكفيرًا، ولعدم قبوله بفكرة تصحيح المفاهيم.

وانكشف دعاة السلفية بعد أن ظهروا أمام شرائح المجتمع كتيار ديني منتفع وفارغ من الجوهر والمضمون، ولا يرقى لمستوى طرح مشروع تغيير أو إصلاح اجتماعي مستند إلى الدين، ما وضعهم وجهًا لوجه مع ما اعتبروه أداة استراتيجية للتغيير من أسفل ومن أعماق المجتمع.

ورسخ كبار مشايخ ودعاة السلفية، أمثال محمد حسان وأبوإسحق الحويني ومحمد حسين يعقوب، وغيرهم، لدى الشباب فكرة سوداوية عن الواقع تحت جملة من الشعارات، تؤكد انتشار الظلم والطغيان والفساد الأخلاقي ومخالفة تعاليم الشريعة والزهد في الدنيا الزائلة وانتظار النعيم الأخروي، بينما يعيش هؤلاء الدعاة في راحة ورفاهية ملحوظة.

وزالت العوامل التي جعلت الوهم السلفي حقيقة وأعطت له فاعلية مصطنعة في الواقع المصري، فلم يعد السلفيون جزءًا من اللعبة السياسية كممثلين لجناح يمين اليمين، فضلًا عن أن هناك مأزقا بنيويا ومنهجيا عاصفا يواجههم نتيجة التحولات الثورية ضدهم، حيث انقضت الحاجة إليهم كأوراق ضغط ومناورة في وجه الفصائل الإسلامية الأخرى.

وتلاشت المساحات التي يتحرك فيها السلفيون تحت مظلة توظيف الدولة أو جماعة الإخوان، وصاروا مكشوفين أمام النخب لتناقضاتهم وممارساتهم الفجة وفتاواهم الشاذة المنافية للأعراف والمهددة للوحدة الوطنية والخادشة للقيم الاجتماعية.