صدى الساحل - بقلم احمد حوذان
لم أشبع من سماعها؛ فغريزتي تهفو إلى بلاغة اللفظ، وإلى ذلك التشبيه المشحون بالجزالة. كأن القصيدة تُميت فيَّ كل شيء لتعيدني بكامل حواسي، توقظ ماضيّ الحزين دفعة واحدة، فتذرف العين دمعًا ليس ضعفًا، بل اعترافًا بقوة الكلمة حين تصدق.
ليس الشعر ترفًا لغويًا في الأزمنة العادية، فكيف به في زمن الانكسار؟
هنا يتحول البيت الشعري إلى موقف، والكلمة إلى بوصلة، والقصيدة إلى محكمة أخلاقية تُحاكم اختلال القيم قبل أن تُحاكم الوقائع.
يقول يحيى الحمادي:
الناسُ تخسرُ فردًا كي ترى وطنًا
ونحنُ من أجلِ فردٍ نخسرُ الوطنا
بهذين الشطرين، لا يكتب الشاعر شعرًا بقدر ما يقدّم تشخيصًا موجعًا لعلّة وطن. مقابلة حادة تكشف انقلاب المعايير؛ حيث يُضحّى بالوطن باسم الأفراد. ليست المأساة في الخسارة وحدها، بل في سوء الاختيار، وفي وطن يُدفع إلى المقصلة تحت لافتة الأشخاص.
ويمضي الحمادي أبعد حين يرفع المعنى إلى ذروة التحدي:
لسنا وإن قطعونا فوقها إربا
نرضى بتقطيع صنعاء أختها عدن
هنا يبلغ الشعر قمته الأخلاقية؛ الجسد يُمزّق، لكن الإرادة لا تُجزّأ. وصنعاء وعدن لا تُذكران كمدينتين، بل كأختين في رحم وطن واحد، في استعارة تُسقط كل مشاريع التشطير، وتُعيد الجغرافيا إلى معناها الإنساني والوطني.
بلاغة الحمادي لا تقوم على الزخرف، بل على الجزالة الصادقة؛ لفظ قوي، ومعنى مستقيم، وموقف لا يراوغ. إنه شعر يكتب من قلب الجرح، لا من هامش الحدث، ولهذا يصل سريعًا إلى القارئ، ويستقر طويلًا في وعيه.
كلما أثقلنا الحزن، وكلما أوشك اليأس أن يسرق ملامحنا، يجيء من تعز عملاق.
ليس شاعرًا عابرًا، بل صوتًا يوقظ الروح من غفوتها، ويعيد للكلمة دورها حين تتكاثر العتمة.
اليوم يتصدر يحيى الحمادي المشهد، كما تصدّر من قبل عبدالله عبدالوهاب نعمان في حقبة الصراع مع الإمامة والاستعمار؛ يوم كان الزبيري يكتب للوجع، ونعمان يلحن للزمن، فتغدو القصيدة فعل مقاومة، والأغنية بيان وطن.
التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يستدعي أصواته حين تتشابه المحن.
وها هي الأحداث تعيدنا إلى أسئلة الأمس، فنكتشف أننا ما زلنا بحاجة إلى من يوقظنا، إلى شاعر لا يهادن الانكسار، ولا يساوم على الوطن.
من تعز، مرة أخرى، يخرج عملاق.
يمنح الكلمات نبضًا، ويعيد للوجع معناه،
فننهض من بين الرماد أكثر وعيًا،
وأكثر تشبثًا بوطنٍ لا يموت ما دامت فيه قصيدة تقول: لا.
نعم يأتي هذا الصوت الشعري ليذكّرنا أن الكلمة ما زالت قادرة على الوقوف،
وأن الشعر—حين يكون وطنيًا صادقًا—لا يُجمّل الألم، بل يمنحه معنى،
ويعيد لنا شيئًا من رونقنا، ومن قدرتنا على الحلم بوطنٍ لا يُختصر في فرد، ولا يُقسّم مهما تكاثرت السكاكين.