اخبار وتقارير

الأحد - 24 أغسطس 2025 - الساعة 10:00 م بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - لاهاي - بحر العرب










أولاً : المشهد المباشر


في مساء الجمعة 22 أغسطس/آب 2025، هزّت العاصمة الهولندية لاهاي عاصفة سياسية نادرة : وزير الخارجية كاسبر فِلدكامب أعلن استقالته بعد فشل مساعيه لفرض حزمة عقوبات جديدة على إسرائيل .

لم تمر ساعات حتى تبعته كتلة كاملة من حزبه NSC ( العقد الاجتماعي الجديد ) : خمسة وزراء بينهم نائب رئيس الحكومة، وأربعة وزراء دولة، ليصبح المجموع تسعة مغادرين دفعة واحدة .

وبالتوازي، رفض البرلمان الهولندي الاعتراف بدولة فلسطين وأسقط مقترحات لمزيد من الضغط على تل أبيب .

هذا التناقض — استقالات من الحكومة مقابل رفض برلماني — كشف عن صدع استراتيجي غير مسبوق داخل أوروبا الغربية .

ثانياً : الأبعاد الاستراتيجية للقرار الهولندي

1) ضرب صورة “ التماسك الأوروبي ”

الاتحاد الأوروبي بنى لنفسه سمعة بأنه “ قوة معيارية ” تسوّق قيم حقوق الإنسان. لكن استقالات بحجم فريق حكومي كامل احتجاجاً على غياب عقوبات ضد إسرائيل تعني أن هذا الخطاب لم يعد مجرد جدل خارجي ؛ بل أصبح خط انقسام داخلي يهدد استقرار الحكومات .

•المثال الهولندي سيُقرأ في مدريد وأوسلو ودبلن باعتباره سابقة مشروعة لتبنّي مواقف أكثر صرامة .

•إسرائيل، بالمقابل، ستوظّف الانقسام البرلماني الهولندي (رفض الاعتراف بفلسطين) لإثبات أن “ الديمقراطيات الأوروبية ما تزال عاجزة عن اتخاذ موقف موحد ”.

2) تحريك المسار القضائي والشعبي

هولندا ليست مجرد دولة أوروبية ؛ هي مقر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية .

أي تطور سياسي فيها سيُضاعف الضغوط القانونية على إسرائيل .

قرارات المحاكم (كما في بلجيكا بوقف مرور السلاح) ليست حوادث منفصلة؛ بل مؤشرات لبيئة أوروبية قضائية تتشدد تدريجياً، مدفوعة بغضب الشارع وتراكم صور المجاعة في غزة .

3) البُعد الأخلاقي – السياسي

إعلان المجاعة رسمياً في غزة جعل أي مسؤول أوروبي يرفض العقوبات في موقع دفاع أخلاقي هشّ .

الوزراء الهولنديون أدركوا أن التاريخ لن يرحم الصمت، وأن كلفة البقاء في حكومة مترددة أخطر سياسياً من كلفة الخروج . هذا التحول الأخلاقي قد يتحول إلى قاعدة عدوى سياسية تفرض نفسها على برلمانات أخرى .

ثالثاً : انعكاسات محتملة على مسار الحرب في غزة

1) المسار اللوجستي – العسكري

•إذا توسّعت سابقة هولندا، ستواجه إسرائيل مزيداً من “الخنق الصامت” في صيانة الطائرات أو توريد الذخائر الدقيقة عبر الموانئ الأوروبية .

•هذه ليست ضربة سريعة لكنها “تآكل بطيء” في القدرة العملياتية، يضيف طبقة ضغط غير مباشرة على الجيش الإسرائيلي .

2) المسار الدبلوماسي

•مدريد تقود جبهة تدعو إلى تعليق اتفاق الشراكة الأوروبي – الإسرائيلي، وهو سلاح اقتصادي أثقل بكثير من عقوبات قطاعية .

•إذا تراكمت مواقف مثل هولندا وبلجيكا، فإن “مناخ العقوبات” قد يتحول إلى أمر واقع، حتى لو بقي الاتحاد عاجزاً عن اتخاذ قرار موحد .

3) المسار السياسي للقضية الفلسطينية

•الاعتراف بدولة فلسطين سيظل معلقاً في كثير من البرلمانات، لكنّ الضغط الشعبي والقضائي يجعل “تطبيع العلاقة مع تل أبيب” أصعب يوماً بعد يوم .

•الاستقالات الهولندية قد تُسهم في خلق موجة جديدة :

برلمانات تُحاصر حكوماتها بخيارات أخلاقية حادة، ما يمهّد لشرخ أوسع في بنية الدعم الأوروبي لإسرائيل .

رابعاً : الخفايا التي قلّما تُذكر

1.ارتباط الجغرافيا بالمصالح : ميناء روتردام أكبر منفذ بحري في أوروبا. أي إشارة إلى تقييد حركة السلاح أو البضائع المرتبطة بإسرائيل فيه تعني تغييراً في قواعد اللعبة اللوجستية للحرب .

2.حسابات التوازن الأطلسي : واشنطن لا ترغب برؤية “انتفاضات حكومية” أوروبية تفتح ملفات شرعية الدعم العسكري لإسرائيل .

الضغط الأمريكي قد يزداد خلف الكواليس لإعادة ضبط المسار .

3.استراتيجية إسرائيل المضادة : من المرجّح أن تل أبيب ستعمل على “تثبيت الشركاء الصامتين” (ألمانيا، التشيك، هنغاريا) لتقويض أي ديناميكية أوروبية نحو الإجماع .

خامساً : مآلات استراتيجية متوقعة

•قصير المدى (أسابيع) : متابعة المحاكم الأوروبية، والضغط على الموانئ، وقرارات برلمانية فرعية .

•متوسط المدى (أشهر) : تصاعد حملة المطالبة بتعليق اتفاق الشراكة الأوروبي – الإسرائيلي، وربط أي تعاون اقتصادي بشروط إنسانية في غزة .

•بعيد المدى (عام+) : تفكك تدريجي في صورة “إسرائيل الحليف الطبيعي” داخل أوروبا الغربية، واستبدالها بصورة “ إسرائيل عبء أخلاقي وسياسي ”.

الخلاصة الاستراتيجية

ما جرى في هولندا ليس مجرد أزمة داخلية عابرة، بل زلزال استراتيجي يضرب قلب الاتحاد الأوروبي، حيث يتحول ملف غزة من قضية خارجية إلى عامل تفكك داخلي في الحكومات .

إذا تكرّر السيناريو في عاصمة أوروبية أخرى، فإن الحرب في غزة ستدخل طوراً جديداً :

طور إعادة تعريف كلفة الاستمرار بالنسبة لإسرائيل، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً .