اخبار وتقارير

الإثنين - 15 ديسمبر 2025 - الساعة 11:14 م بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - بيقلم احمد حوذان

أنا لا أكتب هذا المقال من موقع المراقب أو المحلل السياسي، بل من موقع الشاهد؛ شاهدٍ على الزنازين، وعلى الانتظار الطويل، وعلى الكذب المنهجي الذي يُدار باسم السياسة والتفاوض. أكتب بصفتي صحفيًا، نعم، لكن قبل ذلك بصفتي مختطفًا سابقًا قضى عامًا ونصف العام في سجون جماعة لا ترى في الإنسان سوى ورقة ضغط، ولا تؤمن بالسلام إلا كشعار مؤقت.
كنا بالمئات، وهذه حقيقة يجب أن تُقال بوضوح. لم يكن بيننا مقاتل واحد، ولا من حمل سلاحًا، ولا من واجه الحوثيين، ولا حتى من رفع عصًا في وجوههم. كنا مدنيين خالصين: طلاب جامعات، موظفين، عمال، شبانًا انتُزعوا من الشوارع، ومن المدارس، ومن أماكن عملهم، وبعضهم بطرق خديعة لا تقل إجرامًا عن الاختطاف نفسه.
أتذكر حسام، وعبدالله ورو، وأمجد دبوان، وحسام الشوافي. الأخير كان يعمل في مجال الألمنيوم، تلقى اتصالًا عاديًا قيل له إن هناك عمارة من عدة أدوار تحتاج إلى مقاولة. ذهب كما يذهب أي عامل شريف بحثًا عن رزقه، لكن ما إن بدأ بأخذ القياسات حتى وجد نفسه محاصرًا، دُفع بقوة، سقط أرضًا، وبدأت رحلة لا علاقة لها بالقانون ولا بالإنسانية. كان يكرر سؤالًا واحدًا: “ما الذي فعلته؟” وكان الجواب دائمًا: “سنعلمك”.
هذه ليست حالة فردية، بل سياسة متكاملة. سياسة اختطاف ممنهجة استهدفت المدنيين تحديدًا، لأنهم الحلقة الأضعف، ولأن خطفهم لا يكلّف الجماعة شيئًا، بينما يمنحها أوراق ابتزاز جاهزة. أتحدث عن عشرات السجون في حجة، وعمران، والمحويت، والحديدة، وذمار، وإب، وريمة، فضلًا عن محافظة صعدة التي تحوي بين جنباتها مئات المختطفين المخفيين قسرًا منذ سنوات. أنا عشت هذه القصص، وعشت عشرات غيرها، ولو أردت سرد كل ما رأيته وسمعته وعشته في سجون الجماعة الإرهابية لطال المقال أكثر وأكثر. شباب بسطاء، شيوخ، أكاديميون، طلاب، عمال، لا ذنب لهم سوى أنهم خارج مشروع المليشيا.
المأساة الأكبر لا تكمن فقط في سلوك الحوثيين، فذلك متوقع من جماعة مسلحة لا تعترف بالقانون، بل في طريقة التعامل الدولي مع القضية. لا تزال الأمم المتحدة تتعامل مع ملف الأسرى والمختطفين كملف واحد، وكأن المدني المختطف من الشارع يساوي المقاتل في الجبهة. هذا خلط خطير، إما ناتج عن جهل، أو عن تواطؤ، أو عن عجز فادح في إدارة الملف.
والحقيقة المؤلمة أيضًا أن الشرعية نفسها تتحمل جزءًا من المسؤولية. هناك فشل واضح في إيصال القضية كما هي، وضعف في الخطاب، وارتباك في إدارة الملفات الإنسانية. كثير من المسؤولين وصلوا إلى مواقعهم دون كفاءة سياسية حقيقية، فكانت النتيجة ضياع الملفات، وعلى رأسها ملف المختطفين. لقد بُنيت الشرعية – ولا تزال – على سياسة محاصصة: أحزاب، ومصالح، ومنافع، لا على استراتيجية وطنية واضحة، وهو ما ضاعف معاناة المختطفين وذويهم، وسمح بتحويل قضيتهم من جريمة إنسانية إلى بند تفاوضي قابل للتأجيل.
أقولها بوضوح: لا سلام مع السجون مفتوحة. أي مفاوضات لا تبدأ بالإفراج الفوري وغير المشروط عن المدنيين المختطفين هي مفاوضات بلا قيمة، وأي حديث عن حلول سياسية بينما الآلاف خلف القضبان هو حديث زائف، مهما بدا براقًا. فالحرية ليست ورقة تفاوض، وليست تنازلًا سياسيًا، الحرية حق.
أتحدث اليوم عن إبراهيم ساجد وربيع جيلان، وعن مئات غيرهم ممن لا تزال أسماؤهم عالقة بين الجدران، وأمهاتهم عالقات في الانتظار. هؤلاء ليسوا أرقامًا في تقارير، بل وجوه وقصص وأعمار تُستنزف بصمت. السلام الحقيقي لا يبدأ من القاعات المغلقة، بل من فتح أبواب الزنازين، وما عدا ذلك ليس سوى ضجيج سياسي فوق جراح مفتوحة. وهذا ليس نداء استعطاف، بل شهادة… وموقف.