منوعات

الأحد - 22 مارس 2020 - الساعة 11:23 ص بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل _متابعات

هل من الممكن أن يتحوّل البشر إلى كائنات هجينة تمزج بين الطبيعي والصناعي؟ وهل تشهد قدراتهم الفكرية والبدنية والنفسية قفزة كبرى تجعلهم يقتربون في المستقبل من التحوّل إلى نسخ أصلية تحاكي شخصية “سوبرمان” التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه الفلسفي “هكذا تكلم زرادشت”؟ الإجابة تبدو شاقة. إذ رغم أنّ تطور العلوم البيولوجية أصبح قادرا على تجسيد هذا الحلم، فإنّ الذهاب بعيدا في هذه المغامرة يمكن أن يُثير جدلا أخلاقيا ومخاوف من “خلق” كائنات أشبه بالوحوش البشرية.

يسعى علماء الهندسة الوراثية إلى الاستفادة من التكنولوجيا البيولوجية، في تحسين التطوير الانتقائي للنباتات والحيوانات من أجل رفع قيمتها الغذائية وجعلها أكثر قدرة على التأقلم مع مختلف التغيّرات المناخية، وهو ما يلقى قبولا واسعا رغم وجود بعض الاعتراضات.

لكن سعي بعض العلماء إلى دخول مغامرات بيولوجية تنقل تلك التجارب إلى تطوير قدرات بشرية خارقة ينطوي على مخاوف مثيرة للجدل، رغم أن البعض يرى فيها آمالا كبيرة، خاصة بعد تزايد المخاوف التي يثيرها ظهور أوبئة جديدة.

ويرى مؤيدون أن البشر ينبغي أن يدخلوا في سباق مع التحديات الجديدة لمواصلة السيطرة على الطبيعة والتأقلم معها، وتخفيف وطأة البشر على التوازنات الطبيعية مع تزايد أعداد السكان.

في ظل تغيّر المناخ، وتفشي الفايروسات والأمراض المُعدية، يعتقد العلماء بإمكانية إجراء تعديل بيولوجي للإنسان، ليتمكّن مستقبلا من مواجهة الآثار المدمرة وتحمل نقص المياه المفاجئ والتكيّف مع درجات الحرارة المرتفعة ومكافحة مسببات الأمراض.

ويعرّف العلماء “التعديل الوراثي” التقليدي بأنه إدخال صفات وراثية جديدة على أحد أصناف النباتات باستخدام التقنيات البيولوجية “الحيوية” لتحسين نوعية وجودة المنتج الزراعي، مثل إضافة جينات بعض النباتات سريعة النمو إلى النباتات بطيئة النمو بهدف زيادة كمية الإنتاج.

وبفضل هذه التقنية تمكّن العلماء من استنباط أصناف جديدة من المحاصيل تقاوم الجفاف والأمراض وأكثر قدرة على التصدي للتحديات المناخية.

وكما يقال إن الذئاب هي “الأقارب البرية للكلاب” فقد أصبح هناك “أقارب برية” للمحاصيل الزراعية التي يتغذّى عليها الناس اليوم، ومن غير المستبعد أن تصبح هناك أيضا “كائنات بشرية هجينة”.

سباق إلى السوبرمان

تبدو الفكرة أشبه بالشخصية الخيالية “سوبرمان” الرجل المتفوّق الذي سعى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه إلى استكشافه في كتابه الفلسفي “هكذا تكلم زرادشت”. ويؤكد المفكرون أنّ الكثير من الأفكار الخيالية حملت في طيّاتها بذرات واقعية للثورات العلمية، التي غيّرت مجرى حياة البشرية بأسرها.

وفي الأعوام الأخيرة اكتسب التعديل الجيني اهتماما كبيرا، وبدأت فكرة تعزيز قدرات الجسم البشري تراود الكثير من العلماء، ولو تم تنفيذ بعض التجارب المقترحة في هذا المجال، فإن المستقبل الذي سيمتلك فيه الإنسان قدرات فكرية وبدنية ونفسية “خارقة” آت لا ريب فيه.

وكشفت الأبحاث التي جرى في إطارها تغيير الحمض النووي للبشر، والتي تسمّى كريسبر (CRISPR)، عن تقدم غير مسبوق في مجال علم الجينات وأصبحت متاحة للجميع ويمكن شراؤها عبر الإنترنت. فرغم أن هذه التقنية لم تستخدم على نطاق واسع، إلا أنها فتحت الباب أمام إمكانيات مثيرة ومحيّرة في الوقت نفسه، في ما يتعلّق بإمكانية تطوير قدرات الإنسان ونقلها إلى آفاقٍ أبعد كثيرا من تلك المتاحة لدى شخصية “سوبرمان” الخيالية.

ثورة تقنية شاملة

خلال الأعوام الخمسة الماضية أحدثت تقنية “كريسبر كاس 9” التي تعتمد على الإنزيم “كاس 9” ، طفرة كبيرة في مجال العلاج الجيني لانخفاض تكلفتها وسرعتها في تعديل الجينات، وساعدت العلماء في إزالة الجينات المعيبة بدقة وقص تسلسلات الحمض النووي في الأماكن المحددة التي يريدون إدخال جينات جديدة فيها.

ومنذ ذلك الحين، أجريت الكثير من الأبحاث العلمية لتحديد الجينات المعيبة المسببة للأمراض الوراثية.

وتشير بعض التوقعات إلى أن السوق العالمي لتقنيات تعديل الجينوم سوف يتضاعف حجمه على مدى خمس سنوات منذ عام 2017 ليصل إلى 6.28 مليار دولار بحلول عام 2022.

هناك أيضا تطوّرات طبية هائلة أدت إلى اندماج الأجهزة الإلكترونية بالجسم البشري مثل “الحبة الذكية”، وهي جهاز استشعار دقيق يمكن ابتلاعه لكي يتسنّى من خلاله رصد المؤشرات الفسيولوجية المختلفة داخل جسم الإنسان.

كما جرى توصيل أجهزة إلكترونية مباشرة بدماغ أشخاص يعانون من مشكلات في الدماغ. وقد يجري في المستقبل زرع أجهزة جديدة تمكّن الناس من قدرات خارقة.

وفي ضوء التطورات العلمية المتسارعة، تبدو الفكرة التي طرحها قبل أعوام ماثيو لياو، مدير برنامج أخلاقيات علم البيولوجيا في جامعة نيويورك حول أهمية المزايا الكبيرة لتعزيز القدرات البشرية على صعيد مواجهة التغيّرات المناخية، قابلة للتحقق على أرض الواقع.

ويعدّ التغير المناخي أحد أكبر التهديدات التي تواجه البشرية، ومع تزايد المخاطر المرتبطة به. ويقترح البعض حلولا طموحة تبدأ من فكرة ضخ الغبار في الغلاف الجوّي، وصولا إلى فكرة الهروب إلى الفضاء.

لكن لياو لا يستبعد فكرة هندسة البشر بيولوجيّا، بمعنى تعديل بعض الصفات البيولوجية لديهم حتى يكونوا قادرين على التأقلم مع التأثيرات الضارّة التي يسببونها للبيئة.

ويشدّد على إمكانية إنتاج بشر أكثر حفاظا على البيئة بتغيير بعض المكوّنات البيولوجية، مثل تغيير أحجامهم أو نظامهم الغذائي. ويقول “نحن لا نقترح هنا أن تصبح هذه الأفكار إلزامية، لكن يستحسن أن تكون مجرد خيارات أمام البشر”.

إنسان أصغر لحماية البيئة

يرجح ماثيو لياو أن يصبح بإمكان البشر أيضا تقليص حجم أجسادهم، إذ أن خفض طول الإنسان 15 سنتيمترا مثلا يؤدي إلى خفض أحجامهم بنسبة تصل إلى نحو 25 في المئة، وهو ما يعني خفض حاجته للطعام والشراب والتنقل والتخلّص من ربع تأثيره السلبي على البيئة.

ورغم وجود نظرة اجتماعية مختلفة تجاه قصار القامة، إلا أن لياو يرى أن لها فوائد كثيرة، وأن قصار القامة يعيشون عمرا أطول مقارنة بغيرهم، ويجدون مقاعد تناسبهم بشكل أفضل في وسائل المواصلات وفي الطائرات.

ويعتقد لياو أن الهندسة البشرية حدثت بالفعل في بعض مناحي الحياة المختلفة. ويشير على سبيل المثال إلى أن الكثير من البشر أصبحوا يميلون إلى تغيير أجسادهم لكي يصبحوا أكثر جاذبية من خلال عمليات التجميل.

وقال في هذا الشأن إن “الكثير من الأشياء التي نتحدث عنها موجودة بالفعل في المجتمعات، وهي ليست بدرجة التطرّف التي نتصوّرها. فرغم أنها لا تتم في سياق مواجهة التغيّر المناخي، لكن لو قدّمت مثل تلك الخيارات للناس، ربما يقبل بها البعض”.

أما توماس مايلوند، الأستاذ المتخصص في تحليل البيانات الحيوية في جامعة آرهوس في الدنمارك فيرى أن العلماء سوف يتمكّنون في يوم ما من تعديل البشر ليصبحوا أصغر حجما حتى توفر أجسادهم الطاقة، التي يحتاجون إليها في عالم مكتظ بالسكان ويتكيّفون مع متغيّر جديد وهو ازدحام البيئة المحيطة بهم.

أرني هينريكس قد طرح في عام 2013 فكرة يرى فيها أن الطول المثالي للإنسان سيكون 50 سنتيمترا، وذلك للحد من تأثيرنا السلبي على البيئة. إلا أن هذه التصوّرات العلمية والمتخيّلة، تثير الكثير من الجدل في العديد من الأوساط الاجتماعية والدينية، وهي تغذّي المخاوف من توظيفها في أهداف غير أخلاقية. وقد يصل الأمر إلى حدّ تخليق كائنات أشبه بالوحوش البشرية ومصاصي الدماء.

وفي الوقت الذي يشدّد فيه بعض العلماء المناصرين للهندسة الوراثية، على أهمية المحافظة على خصائص المواهب الفذّة، من حيث الكفاءة العقلية والشخصية المفضّلة اجتماعيا والخالية من العيوب الجسدية، وضمان توارث ذلك عبر الأجيال، تتعالى أصوات أخرى تطالب بوقف التجارب الهادفة إلى تعديل الجينات، خوفا من التدخل في الصفات الوراثية البشرية.

مخاوف التفوق الطبقي

هناك مخاوف لدى معارضي التجارب على البشر من استغلال الأغنياء لهذه التقنية في تحسين خطهم السلالي، وعجز الفقراء عن ذلك، مما يؤدي إلى خلق نظام بيولوجي جديد للطبقات.

ويعتبر الفيلسوف الأميركي غريغوري كافكا من أشدّ المعارضين للتعديل الجيني، فهو يرى أن أي حركة تهدف إلى التطوير الجيني، يمكن أن تساهم في إرساء عدم المساواة الاجتماعية.

ويشير إلى أن الأرستقراطيات القديمة حسب المولد أو اللون أو الجنس قد تختفي، لتحلّ مكانها أرستقراطية جينية جديدة. ويحذّر كافكا من أن التصدّعات العميقة في المجتمع، يمكن أن تتسع لتصبح هوة عميقة، إذا توفرت للأغنياء فقط إمكانية اختيار خطهم الوراثي.

ويشير إلى أن الأرستقراطيات القديمة حسب المولد أو اللون أو الجنس قد تختفي، لتحلّ مكانها أرستقراطية جينية جديدة. ويحذّر كافكا من أن التصدّعات العميقة في المجتمع، يمكن أن تتسع لتصبح هوة عميقة، إذا توفرت للأغنياء فقط إمكانية اختيار خطهم الوراثي.

ويشدد عدد من علماء الهندسة الوراثية على ضرورة إحاطة عامة الناس بالقضايا الأخلاقية المتعلقة بالتعديل الوراثي والمسارات التي قد يتبعها هذا العلم.

لكن مايلوند يعتقد أن هذه النظرة قد تتغيّر مستقبلا. وربما يصبح عدم إجراء بعض التعديلات الجينية أمرا غير مقبول من الناحية الأخلاقية والاجتماعية. ولا يستبعد أن “تسير الأمور على سبيل انتقاء الصفات الجينية في البشر مثلما نقوم حاليا بعمليات تهجين الكلاب”.

لكن بعيدا عن كل هذه الافتراضات والجدل، يبدو من غير المستبعد أن تفرض تأثيرات التغيّر المناخي، على أجيال المستقبل، قبول فكرة التعديل البيولوجي، وقد يكون ذلك أسهل عليهم من محاولة تعديل المناخ نفسه.