الثلاثاء - 08 يوليو 2025 - الساعة 05:15 م
في زمنٍ تراجعت فيه هيبة الكلمة، واختلط فيه ضجيج الشعارات بزيف المشهد الثقافي، وسط عالمٍ يستهلك القصيدة كما يستهلك خبراً عابراً على شاشات الهواتف، يظلّ اسم الشاعر اليمني الكبير أحمد علي الهمداني علامة فارقة وضميراً حيّاً للأدب، ورمزاً أصيلاً لشعرٍ لا يخضع لإملاءات اللحظة ولا ينحني أمام العناوين العابرة .
الهمداني ليس مجرد شاعر يكتب أبياتاً على ورق، بل هو صوت الإنسان المقهور، وذاكرة الوطن الجريح، ووجدان البحر الذي حمل سفن الحنين والخذلان معاً .
إنه شاعر عدن، مدينة النوارس والمرافئ المفتوحة والأحلام المؤجلة … المدينة التي كتبها حباً ووجعاً، وكتب منها قصيدته الأكثر صدقاً في زمن الأقنعة .
في شعره يتماهى الوطن مع الإنسان، تختلط ملوحة البحر بمرارة الفقد، وتصبح القصيدة وثيقة حبّ وخريطة مقاومة في آنٍ واحد .
أحمد علي الهمداني لم يبحث عن التصفيق، ولم ينتمِ إلى سلطة أو معارضة مؤقتة، بل إختار الانتماء إلى المعنى الأصيل … إلى الحرية، إلى الإنسان، إلى الوطن الذي يجب أن يُترك في سلام .
في هذا المقال، نُعيد قراءة تجربة هذا الشاعر الذي أنصف الكلمة حين خانه الكثيرون، وكتب للوطن حين باعه البعض في سوق المساومات، وظلّ وفيّاً لعدن كما يُفترض بالشعراء الحقيقيين أن يكونوا .
الرجل الذي أنصف الشعر … وأنصف الوطن
منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كانت عدن تعيش مخاض التحولات الكبرى بين آمال التحرر، وصدمات الواقع، أطلّ الشاعر أحمد علي الهمداني على المشهد الأدبي اليمني والعربي كصوت مختلف لا يشبه السائد .
لم يكن شاعر سلطة يسوّق الوهم تحت عباءة الخطابات الرسمية، ولم يكن جزءاً من معارضة غوغائية تبحث عن الأضواء الزائفة .
بل كان وما يزال شاعر الإنسان أولاً … الإنسان المقهور، الباحث عن كرامته في زحمة الانكسارات، الحالم بوطن يحتضنه لا يخذله، العاشق لعدن كمدينة لا تنكسر، وكذاكرة حضارية تستحق الاحترام، وتليق بتاريخها وأهلها .
في قصائده، لم تكن عدن مجرد مكان جغرافي، بل كانت رمزاً لهوية الإنسان اليمني، بوابته للعالم، ومساحته للحرية والحلم والكرامة .
كتبها بحرقة العاشق وخوف الأب وحنين المنفي … رسم ملامحها بنداءات القلب حين عزّ الصدق في المشهد الشعري، وبأوجاع الناس حين تحوّلت الأوطان إلى سلعة في سوق السياسة .
الهمداني شاعر إختار أن ينحاز للحقيقة لا للشعارات، للوطن الكبير اليمن، لا للأجندات، للكلمة الحرة لا للمواقف الموسمية، ولهذا ظلّت تجربته الشعرية نادرة في صدقها، ومميزة في نُبلها، وعميقة في بعدها الإنساني والوطني على السواء .
كثيرون يكتبون القصائد، لكن قلّة نادرة فقط ينجحون في تحويل الشعر إلى موقف حضاري حيّ، إلى صوت صادق يعلو فوق الحسابات الضيقة، إلى صرخة واعية تنحاز للإنسان، للحق، للوطن بمعناه النقي لا المُسيّس … والشاعر أحمد علي الهمداني كان من بين هؤلاء القلائل الذين فهموا جوهر الكلمة، وأدركوا أن القصيدة ليست مجرد زخرفة لغوية أو تمرين عاطفي، بل فعل مقاومة ثقافية، ونافذة للحقيقة حين يُطبق الخداع على المشهد .
في زمن أنقسم فيه الشعراء بين أبواق للسلطات، وأصوات للمعارضات المؤقتة، حافظ الهمداني على توازنه النبيل، لم ينحنِ للرياح، ولم يفرّط بالكلمة، بل إختار أن يكتب حيث يقف الإنسان، حيث تصطف الكرامة، حيث يُحاصر الوطن بالحروب والمساومات، لكنه يظلّ جديراً بالحب والقصيدة .
قصائد الهمداني لم تكن نشيداً مفرغاً من المعنى، ولا صدى لمعارك غيره، بل كانت بياناً نقيّاً يُعبّر عن ضمير مدينة عدن، عن ذاكرة البحر، عن وطن يليق بالحلم وبالتاريخ .
بين البحر والنوارس …
تتجسد عدن في قصائده
حين تقرأ ديوان الشاعر الكبير أحمد علي الهمداني الموسوم بعنوانه الباذخ الدلالة :
“ عدن وأنا والنوارس والبحر والأصدقاء ”، تدرك أن هذا الرجل لا يكتب من برج عاجي، ولا يختبئ خلف نظريات الشعر المعلّبة، بل ينزل بالكلمة إلى الميناء، إلى الأزقّة، إلى وجوه الناس البسيطة، إلى الحواري القديمة التي تحفظ أسرار المدينة، إلى ذاكرة البحر الذي كان وما يزال شاهداً حيّاً على دورة الحياة في عدن … مدينة التجارة والثقافة، والخذلان والانبعاث، والحرب والسلام في آنٍ واحد .
في قصائده، لا يظهر البحر كصورة رومانسية مسطّحة، بل ككائن حيّ ينبض بالأسئلة، بالقلق، بالتاريخ، بالحنين، وبالأمل الموجوع .
والنوارس ليست مجرد طيور مهاجرة، بل رموز لعشاق المدينة، لأولئك الذين هجّرتهم الحروب وظلّت قلوبهم معلّقة بأسوار عدن وشواطئها .
عدن عند الهمداني ليست مجرد جغرافيا، بل كيان متكامل تتقاطع فيه الأسطورة بالتاريخ، والميناء بالقصيدة، والناس بالأمل العنيد .
من قلبها كتب، ومن شرايينها نسج قصائده التي تنحاز للبساطة بعمق، وللإنسانية بشجاعة، وللوطن كقيمة لا كشعار مستهلك .
ولعلّ هذا الديوان تحديداً، بما يحمله من صور البحر والنوارس والأصدقاء، يكشف أن الشاعر كان يكتب للإنسان أولاً، وللمدينة التي أحبّها حتى في لحظات الانكسار، وعدن لديه ليست معركة عابرة، بل هي حكاية الانتماء الأخير الذي لا يُساوَم .
قصائد أحمد علي الهمداني ليست مجرد وصفٍ شعري لبحر عدن أو نوارسها العابرة، بل هي أبعد من ذلك بكثير … إنها رموز متجددة للحرية، للصمود، للقلق المشروع الذي يسكن قلب كل وطني صادق، وللأمل الذي رغم كل شيء، لا يموت .
حين يكتب الهمداني عن عدن، لا يكتب من موقع المتفرّج أو السائح العابر، بل من موقع الابن الذي يرى في مدينته الأمّ والملجأ والوجع والكرامة معاً .
يكتب عنها كما تكتب الأم عن طفلها الذي ينام تحت شجرة الخوف، وكما يكتب المنفيّ عن وطنه حين تداهمه الغربة وتنهشه الوحدة .
في قصائده، البحر ليس أفقاً أزرق فقط، بل مساحة مفتوحة للأحلام والخسارات، والنوارس ليست مجرد طيور، بل رسل معلّقة بين ميناء المدينة والمنفى، بين من بقوا في عدن، ومن فرّقتهم الحروب والظروف، لكنهم جميعاً يعودون في القصيدة، يعودون إلى دفء المدينة، وإلى النداء الأخير الذي لا يُنسى :
“اتركوا وطني في سلام”.
ولهذا، لم تكن تجربة الهمداني الأدبية مجرد تراكم لغوي أو مفردات حالمة، بل هي موقف شعري عميق، ينحاز للناس البسطاء، للمقهورين، للمهاجرين، وللمدن التي لا تموت مهما حاصرها الطامعون .
شاعر يحمل عبء الأكاديمية والتراث معاً
لم يكن أحمد علي الهمداني مجرّد شاعر يعيش في ظلال القصيدة، بل كان مثقفاً موسوعياً يحمل عبء الأكاديمية، ومسؤولية التراث، ويوازن بين ألق الشعر، ودقّة البحث العلمي، وهو توازن نادر في زمن استسهال المعرفة .
إلى جانب حضوره الشعري اللافت، برز الهمداني كناقد أكاديمي رصين، جمع بين الذائقة الأدبية الرفيعة، والصرامة المنهجية التي يتطلبها البحث العلمي، ليجسد بذلك معادلة معقدة تجمع بين الإبداع والتأصيل، بين الحداثة والجذور .
تجلّى هذا البُعد الأكاديمي بوضوح في أطروحته للدكتوراه الموسومة بـ “ تشيخوف في النقد العربي ”، التي لم تكن مجرد قراءة تقليدية لأدب الكاتب الروسي الشهير، بل نافذة متقدمة لفهم كيف تفاعل الذهن العربي مع الأدب العالمي، بعيداً عن التكرار السطحي، أو النقل الأعمى الذي سقط فيه كثيرون .
في هذه الدراسة، كشف الهمداني عن قدرته على تفكيك النصوص برؤية نقدية عميقة، تربط بين التراكم الثقافي العربي، والانفتاح على الآخر، مع الحفاظ على هوية النص الأصلي، دون الوقوع في فخ الإسقاطات الرخيصة أو الاستلاب الفكري .
إنها تجربة تؤكد أن الهمداني لم يكن شاعر لحظة عاطفية فقط، بل باحثاً يحمل إرث التراث، وناقداً يعيد قراءة الأدب العربي والعالمي برؤية معاصرة، تستوعب التحولات، وتحترم الأصالة، وتحتفي بالاختلاف الخلّاق .
ولهذا، ظلّ أحمد علي الهمداني صوتاً ثقافياً نادراً … شاعراً، ناقداً، أكاديمياً، وحارساً وفيّاً لذاكرة عدن والوطن والإنسان .
حارس الذاكرة الشعبية …
ومشروع التوثيق الوطني
لم يكتفِ الشاعر والناقد أحمد علي الهمداني بكتابة القصيدة، ولا بالتنظير الأكاديمي، بل حمل همّاً آخر أكثر تعقيداً وصعوبة … همّ التراث الشعبي اليمني، ذلك المخزون الثقافي الهائل الذي ظلّ لعقود مهدداً بالتآكل والنسيان، في زمن تتسارع فيه التحولات، وتكاد تختفي تفاصيل الذاكرة الجمعية بين صخب الحرب وغربة الأجيال الجديدة .
ومن هذا الإدراك العميق، أنجز الهمداني واحداً من أضخم وأندر الأعمال التوثيقية في تاريخ الثقافة اليمنية الحديثة، وهو مؤلّفه الفريد :
“ معجم الأمثال اليمانية الشائعة ”، وهي عملٌ موسوعي غير مسبوق، وثّق فيه أكثر من عشرة آلاف مثل شعبي، مستخرجاً من عمق الموروث اليومي واللسان الشعبي تفاصيل الحياة، وعادات الناس، وحِكَم الأجداد، التي تشكّل هوية الإنسان اليمني، وملامح البيئة الثقافية الممتدة في كل ربوع الوطن .
هذه الموسوعة ليست مجرد تجميع عشوائي للأمثال، بل عملٌ ممنهج استغرق سنوات من البحث الميداني، والنبش في الذاكرة الشفوية، والتقاط ما تبقى من لسان الأمهات، وكبار السن، وسُكّان القرى والأحياء الشعبية، ليُقدّم لنا لوحة متكاملة توثق الثقافة الشعبية، وتحميها من الضياع وسط طوفان الحداثة السطحية .
بهذا المشروع، لم يكن الهمداني فقط شاعراً أو ناقداً، بل حارساً وفيّاً للذاكرة الشعبية، وفاعلًا ثقافياً أدرك أن مستقبل الأمم يبدأ من احترام تراثها، وأن الأمثال ليست كلمات عابرة، بل خلاصة قرون من الخبرة، والحكمة، والصراع مع الحياة .
هذه الجهود الثقافية والفكرية، التي قد تغيب عن صخب الإعلام اللحظي، وعن منصات الترويج السطحي، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن أحمد علي الهمداني ليس مجرّد شاعر يكتب للزمن العابر، بل مثقف استراتيجي بكل ما تحمله الكلمة من معنى … مثقف يفكّر بعيداً، يعمل بصمت، ويؤمن بأن حماية هوية الأوطان لا تكون بالشعارات الجوفاء، بل بالعمل الممنهج، وبناء الوعي، وتوثيق التراث، وتعميق قيم الانتماء بمعايير علمية رصينة .
لم ينخرط الهمداني في الصراعات الإعلامية الطارئة، ولم يلهث خلف الأضواء السريعة، بل اختار طريقاً أصعب وأكثر جدوى … طريق الاستثمار في الذاكرة الجمعية، والبحث في عمق الثقافة الشعبية، وإحياء التراث الذي يشكّل عماد الهوية اليمنية والعدنية على وجه الخصوص .
كيف أنقذ الهمداني إرث لقمان من الغياب
لم يكن أحمد علي الهمداني مجرد شاعر للوطن، ولا مجرد صوتٍ يتغنى بالبحر وعدن، بل كان حارساً وفيًّا للتراث وحافظاً لذاكرة الأجداد، ومُخلّدًا صامتًا للهوية الوطنية، باحثاً دؤوباً في أرشيف الكبار الذين أسسوا الوعي اليمني الحديث، وفي مقدمتهم الصحفي الرائد، والمحامي المستنير، محمد علي لقمان، أحد الرموز التي لا يليق بها النسيان .
لقد اختار الهمداني، بحسّه الأكاديمي العميق ووعيه الثقافي، أن يُنصف الكلمة ويُعيد ترتيب إرث لقمان، مُدركاً أن الشعوب التي تفرّط في ذاكرة روادها، إنما تفرّط في مستقبلها .
لم يركن إلى التوثيق كعملية باردة محايدة، بل انحاز للمسؤولية التاريخية، فتولى إعادة جمع، ترتيب، وتحقيق ما كتبه محمد علي لقمان؛ ليبقى ذلك الإرث الوطني حاضراً للأجيال القادمة، واضحاً في متنه، نقياً من عبث التهميش والنسيان .
لقد أعاد الهمداني بعقله الأكاديمي، وقلبه العدني، وضميره الوطني، ترميم واحد من أهم الجسور الثقافية التي تربط الحاضر بتاريخ النضال الفكري في عدن واليمن عموماً، ليؤكد أن حماية التراث ليست بذخاً ثقافيًا، بل مسؤولية وطنية، يتصدى لها المبدعون الحقيقيون، لا الحشود العابرة .
وبجهد الهمداني الدؤوب، خرجت إلى النور أعمال لقمان مرتبة، مدققة، موثقة، لتذكّر الأجيال الجديدة بأن هناك رجالاً سبقوا زمانهم، وأن من يكتب بصدق، ويناضل بالوعي، يبقى أثره مهما حاولت رياح السياسة العبث بتاريخ الوطن .
إن إعادة إحياء تراث محمد علي لقمان عبر جهود الهمداني ليست مجرد توثيق لماضٍ جميل، بل تأكيد على أن المعارك الفكرية لا تقل أهمية عن معارك السياسة، وأن حفظ ذاكرة الأوطان مسؤولية المثقف الحقيقي، الذي لا يرضى أن تختفي أسماء الكبار في زوايا النسيان .
ولأن الأمم العظيمة لا تُقاس فقط بحجم صخبها السياسي، بل بمدى قدرتها على صيانة ذاكرتها وتكريم رموزها، جاء أحمد علي الهمداني ليؤكد، بصمت العلماء وشموخ الشعراء، أن الهوية لا تُبنى بالشعارات العابرة، بل بإحياء إرث الكبار، أمثال محمد علي لقمان، ممن حملوا على أكتافهم مشروع النهضة، وتركوا للأجيال منابر فكر، لا منصات زائفة .
هكذا، ظل الهمداني وفيّاً لعدن، للوطن، للإنسان، وللحقيقة … شاعراً
يُحسن الغوص في المعاني، وباحثاً يرمم جسور الذاكرة، وحارسًا يُدرك أن الأوطان التي تنسى روادها، تكتب نهايتها بيدها .
وبهذا، تحوّل أحمد علي الهمداني إلى حارس حقيقي للثقافة، والأدب، والهوية الوطنية؛ واحد من أعمدة النضال النزيه، وباحث استراتيجي فذّ، يجمع بين قراءة الواقع، والتاريخ، ورسم ملامح المستقبل .
لقد وضع بين يدي الأجيال القادمة خريطة معرفية متكاملة تحميهم من غياهب الضياع، وتؤكد أن الثقافة والتاريخ ليستا مجرد زينة إضافية، بل ركيزة أساسية للبقاء الوطني، وميادين حاسمة في معركة الاستقلال الحقيقي :
استقلال الوعي، والهوية، والانتماء .
تكريم لا يُصنع… بل يُنتزع
في زمن تُصنع فيه التكريمات على مقاسات اللحظة، وتُوزّع الأوسمة كسلع دعائية، يبقى تكريم أحمد علي الهمداني حالة مختلفة … تكريم لا يُصنع اصطناعاً، بل يُنتزع بجهد صامت، وإنتاج معرفي متراكم، وحضور نوعي يستند إلى القيمة لا إلى الضجيج .
لم يكن الهمداني من الذين يلهثون خلف المنصات أو يسعون لمظاهر الاحتفال، لكنه رغم ذلك، انتزع احترام المشهد الأدبي العربي والدولي، وفرض أسمه بجدارة وسط نخبة المثقفين والمبدعين في فضاء يتسع بصعوبة لصوت أصيل وصادق .
أحد أبرز هذه اللحظات التكريمية جاء من خارج الحدود، حين نال وسام بوشكين الروسي، وهو تكريم نادر في سجل المبدعين العرب، تقديراً لدوره الريادي في الترجمة، والنقد الأدبي، ورأب الفجوة بين الأدب الروسي العريق والمشهد الثقافي العربي .
هذا الوسام لم يكن مجرد ميدالية بروتوكولية، بل اعتراف صريح بأن جهود الهمداني في دراسة الأدب العالمي، وتحديداً أطروحته حول “ تشيخوف في النقد العربي ”، فتحت نافذة ثقافية جديدة، أكدت أن الحوار بين الحضارات لا يُصنع بالشعارات، بل بالبحث الجاد، والعمل الأكاديمي، والترجمة الأمينة التي تحترم الخصوصية، وتحتفي بالاختلاف الخلّاق .
إنها لحظة تؤكد أن التكريم الحقيقي لا يُمنَح لأصحاب الصوت العالي، بل لأولئك الذين يبنون جسور المعرفة بهدوء، ويتركون أثراً يتجاوز اللحظة، ويصنع فرقاً في وعي الأجيال القادمة .
وكما احتفت به الأوساط الأدبية الدولية، بادرت الساحة الثقافية اليمنية إلى إنصاف الرجل، حيث اتفقت التيارات الفكرية والأدبية، رغم اختلاف مشاربها، على إعتبار أحمد علي الهمداني من الأصوات الشعرية والنقدية النادرة التي استطاعت أن تحقق معادلة بالغة الصعوبة :
الصدق الفني، والالتزام الإنساني، والرصانة الأكاديمية، دون أن ينزلق إلى أحد طرفي الابتذال أو الجمود .
فهو لم يكن شاعر سلطة، ولم ينجرف إلى قصائد التهليل والمجاملة السياسية، كما لم يكن شاعر معارضة غوغائية يلهث خلف الإثارة اللحظية أو الشعارات الفارغة، بل اختار لنفسه موقعاً استثنائياً، حيث تنتصر القصيدة لقضايا الإنسان، وتحتفي باللغة كجمال وكأداة مقاومة، تخاطب الوجدان الجمعي بعيداً عن الاستقطابات الضيقة .
وفي النقد، أحتفظ الهمداني برصانته الأكاديمية، مقدّماً قراءات متعمقة للأدب العربي والعالمي، غير أسيرٍ للمحاورات النظرية العقيمة، بل ناقداً مؤمناً بأن النقد مسؤولية فكرية تتطلب شجاعة القول، وعمق الفهم، ونزاهة الموقف .
هكذا، اكتسب مكانته بتراكم التجربة، وصدق الكلمة، وإخلاصه لقيمة الإنسان والوطن، حتى بات جزءاً من الضمير الثقافي لعدن واليمن، واسماً يحظى بالتقدير في الفضاء العربي الأوسع .
اتركوا وطني في سلام …
صرخة تتجاوز الشعر إلى الوعي والحرية
تُعد قصيدة “اتركوا وطني في سلام” واحدة من أبرز وأشجع أعمال أحمد علي الهمداني التي جسدت موقفاً إنسانياً ووطنياً صريحاً، تجاوزه مجرد حدود الشعر ليصبح أيقونة مقاومة فكرية ضد العبث السياسي والتحويل المريب للوطن إلى سلعة أو ورقة تفاوض في أيدي المتآمرين .
في هذه القصيدة، لا نجد خطاباً موجهاً إلى طرف بعينه، بل نداءً جامعاً ومستنيراً يخاطب الجميع :
السياسيين الذين يعبثون بمصير الشعب، والتجار الذين يبيعون الوطن، والإعلاميين الذين يحوّلون الكلمة إلى أدوات تضليل، وحتى الناس البسطاء الذين وقعوا ضحية لهذا العبث .
الهمداني يكتب بنقاء وصراحة لا تحتمل الغموض :
“ اتركوا وطني في سلام،
كفوا عن جراحه،
لا تجعلوه سلعة في سوق المفاوضات،
وطني ليس حقيبة،
ولا بندقية،
وطني بيتنا …
الحلم الذي لم يكتمل .”
هذه الكلمات ليست مجرد شعر، بل هي نداء حقيقي لإنقاذ اليمن، عدن، والإنسان اليمني من دوامة الخراب والفوضى التي ألهتها القوى السياسية المتصارعة، وحوّلت الوطن إلى ساحة للمصالح العابرة .
فيها تكمن قوة الهمداني :
كتابة قصيدة لا تتوقف عند الجمال اللغوي، بل تتخطى ذلك إلى بُعد أخلاقي وإنساني، ليكون الشعر أداة وعي، وصوتاً يصدح في وجه من يختزل الوطن في مصالح ضيقة، وينسى أن الوطن هو الإنسان والحلم والذاكرة والجذر .
لماذا يستحق أحمد علي الهمداني الإنصاف اليوم ؟
في زمن يتسيد فيه عالمنا ثقافة الاستهلاك السريع، حيث تتلاشى القيم الأصيلة وتختفي الرموز الثقافية بين زحمة الضجيج الإعلامي والعبث الإعلامي، يظهر أحمد علي الهمداني كرمز نادر للمثقف الحقيقي الذي يتحلى بالرصانة والعمق والأصالة .
الهمداني لا يبحث عن الشهرة أو المجد الزائف، بل يعمل بصمت وهدوء، حاملاً على عاتقه مسؤولية الحفاظ على هوية وطنه وتراثه، والارتقاء بالكلمة الشعرية والنقدية إلى مستويات من الجمال والمعنى لا تخضع للمزاج أو للضغوط السياسية .
في مشهد ثقافي غالباً ما يسقط في فخ المزايدات والسطحية، يمثل الهمداني حالة استثنائية، شاعراً ومثقفاً يكتب بجمال، ويصنع الفارق بقوة الكلمة الصادقة، مستمداً ذلك من ارتباطه العميق بالإنسان والوطن والذاكرة، لا من الرغبة في التباهي أو الترويج .
إنصاف الهمداني اليوم، هو تصحيح لمسار العدالة الثقافية، والاعتراف برجل رفع لواء الشعر في أحلك الظروف، وبقي وفياً لرسالة الأدب الحقيقية :
قول الحق، ورفع صوت الإنسان، والحفاظ على الهوية الحضارية في وجه كل محاولات التهميش والاندثار .
إنصاف أحمد علي الهمداني ليس مجرد مجاملة أو تكريم روتيني، بل هو إنصاف حقيقي لمسار طويل من العطاء والإبداع .
مسار تميز بالتجربة الشعرية الملتزمة، التي لم تفرّط في قيم الإنسان والوطن، ولم تستسلم لأهواء اللحظة أو ترددات السوق الثقافي .
هو إنصاف للتاريخ الثقافي الذي حمله الهمداني على عاتقه، فكان من أعمدته الثابتة، حاملاً لواء التراث الشعبي اليمني بوعي عميق، وموثقاً لذاكرة شعبه عبر موسوعته الضخمة للأمثال الشعبية، التي تحفظ من النسيان إرث أجيال .
وإنصاف للأكاديمية التي خدمها بجدارة، حيث جسّد في دراساته ونقده الروحي روح المثقف الباحث عن الحقيقة، لا عن الأضواء الزائفة، مقدماً نموذجا نادراً في الموازنة بين النقد الأدبي والشعر الجمالي .
نعم، هو إنصاف للأجيال التي تعلّمت من هذا الرجل كيف يكون المثقف الحقيقي :
حراً في فكره، مسؤولاً عن كلمته، مخلصاً لقضيته، ومتمسكاً بواجبه تجاه مجتمعه ووطنه .
شهادة وفاء لشاعر الإنسان والوطن
أحمد علي الهمداني لم يكتفِ بقصيدة أو ديوان عابر، بل صنع بصمة فكرية وشعرية وإنسانية عميقة لا تُمحى .
هذه البصمة تستحق أن تُدرس للأجيال القادمة، وتُحتفى بها في عدن، وفي كل ربوع اليمن، وفي كل فضاء يحترم الكلمة الصادقة ويدرك أن الشعر الحقيقي لا ينسى الإنسان، ولا يتخلى عن الوطن، ولا يغفل عن البحر، ولا يتنازل عن السلام .
في زمن غابت فيه أصوات الشعر النبيلة، يظل الهمداني منارة تنير الطريق للأدباء والمثقفين، رسالة حية بأن الشعر قد يكون فعل مقاومة، وملجأ للحرية، وأداة لتوثيق الذاكرة والهوية .
ولذا، فإن الوفاء له ليس فقط واجباً أخلاقياً، بل ضرورة ثقافية واستراتيجية للحفاظ على عمق إنسانيتنا وثراء حضارتنا المجيدة .