منوعات

السبت - 13 فبراير 2021 - الساعة 11:29 ص بتوقيت اليمن ،،،

وكالات

امتلك الإعلامي السابق والباحث في شؤون الدين الإسلامي سعيد جاب الخير جرأة كبيرة في طرح أفكاره وتصوراته المستجدة، رغم المناخ الاجتماعي والسياسي غير الملائم في بلاده، كما أبان عن قدرة لافتة على مواجهة التراث المتراكم، غير أن عدم الإلمام بآليات وحجج رموز التيار التنويري في العالم العربي جعله يخسر مواجهاته ضد خصومه ويحشر نفسه دائما في زوايا ضيقة.

أخذت المواجهة المفتوحة بين التيار الإسلامي المحافظ وبين جاب الخير منحى آخر أكثر إثارة للجدل، بعدما تم نقلها من الفضاءات العادية على صدر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي إلى أروقة المحاكم، حيث ينتظر أن يتواجه الرجل مع خصومه في التيار السلفي.

وكان سبعة من المحامين المحسوبين على التيار الإسلامي المحافظ قد تطوعوا للدفاع عن الدعوى التي رفعها الأستاذ الجامعي بشير بويجرة عبدالرزاق، والتي تضمنت عدة تهم وجهت لجاب الخير الباحث في علم التصوف، وتتمثل في “الاستهزاء بالمعلوم من الدين بالضرورة وبشعائر الإسلام والتهكم على آيات من القرآن الكريم وعلى أحاديث صحيحة من السنة النبوية وعلى ركن الحج وشعيرة الأضحية“.

جاء ذلك كله بعد أن أثار جاب الخير جدلا صاخبا بسلسلة كتابات وتصريحات، كان أبرزها دعوته إلى تنظيم فعاليات موسيقية في المساجد، واعتبار الحج وذبح الأضحية طقوسا وثنية، فضلا عن نشر تغريدات عن النبي محمد، كتب في إحداها “إذا كان النقد الديني خطيئة، فلماذا كان الرسول ينتقد دين قريش”.

وينص قانون العقوبات الجزائري على معاقبة كل من يستهزئ بالدين أو الرسل بالسجن لمدة من ثلاث إلى خمس سنوات، وبغرامة مالية، أو بإحدى العقوبتين، لكن جر الباحث جاب الخير إلى المحاكمة أثار جدلا بين النخب التي تتبنى الحداثة، والتي عبرت عن رفضها لمحاكمته وحذرت من مغبة الانزلاق في حقبة جديدة مما أسمته بـ”إرهاب الفكر والرأي”.

وعلى النقيض من رموز التيار التنويري في الجزائر والعالم العربي، على غرار مالك شبل، محمد أركون، ومحمد شحرور الذي أحدث ثورة في الفكر الديني من خلال القراءة التي قدمها للعالم الإسلامي قبل رحيله، فإن جاب الخير ظل يفتقد لآليات وحجج التحكم في المواجهة سواء بالإقناع أو بإسكات الخصوم، فأفكاره ومنشوراته على منطقيتها المفترضة ظلت حبيسة سلوك افتزازي للإجماع المتراكم وتصل أحيانا للتناقض في ما بينها، أو حتى العجز أمام الرأي العام على الرد عن حجج إخوانيين بارزين كعبدالرزاق مقري وأبوجرة سلطاني في مسائل دينية مختلفة.

قانون العقوبات الجزائري ينص على معاقبة كل من يستهزئ بالدين أو الرسل بالسجن لمدة من ثلاث إلى خمس سنوات، وبغرامة مالية، أو بإحدى العقوبتين، لكن جر الباحث جاب الخير إلى المحاكمة أثار جدلا بين النخب التي تتبنى الحداثة

خاض في العديد من المسائل والقضايا الدينية، على غرار الميراث والصيام والأضحية والحج، والنصوص المعروفة بالصحاح، وانحياز علماء الدين القدماء للقبيلة والقومية والدولة السياسية، وجرم التاريخ الإسلامي والفتوحات، الأمر الذي أثار ضده موجة من الاستياء والغضب خاصة لدى التيارات الإسلامية المحافظة.

وهو يقول إن قراءته للنص الديني انطلقت من ”مبدأ عدم تقديس التاريخ، لأن الثابت الوحيد هو القرآن”، وأنه “لا يرفض السنة النبوية لكنه يعتقد بوجود أشياء يمكن التراجع عنها“، مشيرا إلى أن “القراءة التقليدية للنص الديني تُركز غالبا على شرح النص واستنباط أحكامه، فيما القراءة العملية تبحث في مظاهر تشكله وقيمته الإنسانية وأسئلة الإنسان وحاجاته، كما أن المسلمين لا يفرقون بين القرآن والوحي والمصحف، واستغرب من استنساخ الشعوب الإسلامية للقرن السابع أي اتباع نمط حياة النبي والصحابة، واعتباره دينا”.

يشدد جاب الخير في كتاباته ومحاضراته على “ضرورة العودة إلى الصوفية (الدين الشعبي)، كخلاص من التطرف والإرهاب، لأن المنجز الفكري والحضاري الذي كفره الفقهاء أنتج عصور الأنوار بأوروبا، وأن أكبر ما تفتخر به الحضارة الإسلامية ما أنجزه الفلاسفة أمثال ابن رشد وابن سينا”.

ورافع الرجل لصالح التعدد في قراءة النص الديني، لأن حتى الصحابة أنفسهم اختلفوا في قراءة بعض النصوص الفقهية والسياسية، وأن مصطلح الفقيه لا يقصد به المعنى التقليدي (الحلال والحرام)، بل يقصد به كل من ينتج الخطاب الديني، لأنه تاريخيا ارتبط خطاب الفقهاء بالسلطة حيث تناول معظمهم ”باب الإمامة” وطالبوا بضرورة طاعة الحاكم كيفما كان.

ارتبط الفقيه، كما يقول جاب الخير، بخطاب السلطة، لهذا فهو يمثّل الدين الرسمي والذي ما يزال إلى غاية اللحظة، إلاّ أنّه تقلّص كثيرا وهذا ابتداء من انتهاء الخلافة العثمانية وأخذ أشكالا متعددة، وأن هناك خطابات دينية مهمّشة أدت إلى الحكم على أصحابها بالزندقة وأحرقوا وأحرقت كتبهم من طرف أصحاب الخطاب الفقهي الرسمي.

وفي دفاعه عن الصوفية، يرى أنها تتضمن مستويات مختلفة، فهناك خطاب صوفي موجه للنخبة وآخر إلى العامة، وأن هذا الخطاب تعرض للاضطهاد منذ فترة طويلة ولم يستطع كسب شرعية إلا في بعض الفترات القصيرة ليستمر الخطاب الديني الرسمي والخطاب الديني الشعبي، الأوّل مقبول والثاني مرفوض ومن ثم يظهر في فترة من الفترات خطاب يحاول أن ينشئ هدنة بين الخطابين ويتكوّن من فقهاء تصوفوا ومتصوفة تفقهوا.

معركة صائبة بسلاح خاطئ
في خضم حملة الجدل التي أثيرت حول المحاكمة المنتظرة، يقول الإعلامي والأديب والناشط الثقافي المستقل عبدالرزاق بوكبة “كنت أقول له إن كثيرا من الصواب والمنطق يضيع في الطريق غير المدروس. وإن بعض التنويريين مطالبون بأن يدرسوا المزاج العام الذي يتحركون داخله، حتى يستطيعوا تجنب الفخاخ الجاهزة، منها التكفير. ذلك أن الشجاعة الفكرية لا تعني التهور، وأن ينتبهوا إلى مفارقة غير مرصودة كثيرا، هي أن المتطرفين دينيا يحسنون تقديم بضاعتهم، على فسادها، بينما لا يملك التنويريون ذلك، رغم بهاء البضاعة”.

ويشير بوكبة إلى أن استفزاز الضمير الديني العام بلهجة عارية لا يؤدي إلا إلى عكس المراد. وأن القفز على الأولويات في التنوير يجعله في نظر الناس حركة غريبة – تغريبيّة وجب القضاء عليها، فيخسر التنويرُ وحاملُه معا.

ويلفت المتحدث في منشور له “علينا الانتباه إلى أن السلطة السياسية، من خلال منابرها المختلفة، تستغل فرصة الهجوم الشعبي على مسعى تنويري ما، فتجامل الشارع، بانخراطها في تشويهه والتشهير به، من باب مسعاها إلى المتاجرة بالدين، فالحكومات البوتفليقية المتعاقبة كانت تغطي على الزيادة في أسعار شهر رمضان، وتقاعسها عن مراقبة الجودة والصلاحيّة، بتعقبها لحفنة من المجاهرين بالإفطار في الفضاءات العامة. وإذا كان ثمة تنوير نحن بحاجة إليه، في هذا المفصل بالذات، فهو ذاك الذي يُهيئ شارعَنا لقيم الحوار والانفتاح والتعايش والاختلاف والتعدّد والديمقراطية والحق في التعبير والكتابة والإبداع”.

إذ انتقد جاب الخير “قومجة” الإسلام من طرف العرب، فإنه أبان عن لهفة للقومجة غير العربية، ما أسقطه في فخ أدلجة الدين بحسب خصومه، وذكر في أحد حواراته أن الفكر السلفي انطلق مباشرة بعد وفاة رسول الإسلام، ويضيف ”شهدنا جيوش المحدثين الذين راحوا ينشرون أحاديث أغلبها مكذوب ومختلق من أجل تأثيث أيديولوجيا الدولة العربية المركزية أو ما يُنعت بدولة الخلافة، التي تحالف فيها الفقيه مع الخليفة“، مشددا على أن “الإسلام لا علاقة له بالدولة والسياسة، بل هو رسالة روحانية بامتياز، لكن المسلمين انحرفوا بها وحوّلوها إلى مشروع سياسي أطلقوا عليه تسمية الخلافة، وأصبح الأمير يسمى خليفة رسول الله، مع أن الرسول نفسه لم يترك سلطة لأحد“.

وحسب جاب الخير، إن جذور التيار السلفي تمتد إلى الفقهاء الذين كانوا ينتجون أيديولوجية الدولة العربية التي كانت تحكم الجزائر وشمال أفريقيا باسم المركزية المشرقية الأموية، وذلك قبل أن تحدث ثورات كثيرة أطاحت بالسلطة العربية لتؤسس الدولة الرستمية، ثم الدولة الفاطمية، ثم الدولة المرابطية، ثم الدولة الموحدية، ثم الدولة الزيانية، وكلها دول أمازيغية كانت تحكم من منطلق ديني إسلامي، لكنها كانت مستقلّة غالبا عن المركزية المشرقية.

وترى رزيقة عدناني المختصة في الفلسفة الإسلامية أن “المفكر لا يوضع في السجن، ولا يمنع عن الكلام بالعنف ولو لم نتفق معه لأنه روح المجتمع ومصدر ديناميكيته وحيويته. قد لا نتفق مع كلامه، قد لا تعجبنا أطروحاته ولكن لا يمكن أن نفكر لحظة في إسكاته بالعنف الجسدي أو المعنوي، لأن ذلك سيسكت كل المفكرين أي كل الفكر. كيف تكون حالة المجتمع الذي ليس فيه مفكرون ومبدعون؟ إن حبس المفكر ومنعه عن الكلام معناه وأد المجتمع”.

جاب الخير يقول إن قراءته للنص الديني انطلقت من “مبدأ عدم تقديس التاريخ، لأن الثابت الوحيد هو القرآن”، وأنه “لا يرفض السنة النبوية لكنه يعتقد بوجود أشياء يمكن التراجع عنها”

وتذكّر عدناني بأن جاب الخير باحث والباحث بطبيعته يقول كلاما جديدا أي كلاما لم يتعوّد عليه الناس وإلا لما كان باحثا، والكلام الذي لم يتعود عليه الناس نادرا ما يرضي الناس. من حق الناس أن يردوا عليه ولكن الفكر يرد عليه بالفكر. وتلفت إلى أن الفكر المبدع لا يترعرع إلا في جو الحرية الفكرية، والجزائر في مرحلة حاسمة من تاريخها تحتاج إلى كل مفكريها. يكفي أن ننظر حولنا لندرك أن الدول المتقدمة لم تتقدم إلا بمفكريها وذلك في جميع الميادين. ويكفي أن نسأل التاريخ ليقول لنا إن المسلمين بنوا حضارة رائعة لما كان الفكر حرا وكانت المجادلات والمناقشات تجرى في كل مكان، وقضوا على تلك الحضارة لما اتهموا الفكر بالكفر وسجنوه وقتلوه.

أما الأديب والروائي أمين الزاوي فقد قرع أجراس الإنذار بقوله ”حذار، هل بدأت أَفْغَنَةُ الجزائر وطَلْبَنَتُها؟ هل انطلقت جحافل محاكم التفتيش الجديدة؟ هل هي عودة رياح أجواء سنوات التسعينات؟“.

وظيفة الدولة، كما يرى كل هؤلاء من نخب الجزائر، ليست حماية الله ولكن حماية حياة المواطنين وأمنهم وأعراضهم، وواجب الدولة أن تتدخل إذا كان هناك من يدعو لقتل الناس أو يحرض منطقة ضد منطقة أخرى. أما مسألة الله فهي ليست ملكا لأحد وليست ملكا للدولة.