الثلاثاء - 06 مايو 2025 - الساعة 10:30 م
في رثاء الراحل القائد عبد الرحمن حجري أبو خالد
يا أخا الصَّرخة الأولىٰ حين ارتجفَ النَّداء،
ويا ابن الأرضِ إذا نادت، وصوتُها إذا اختنقَ في الحناجر، ورجعها إن أُطفئت المآذن،
يا من لا يُشبهك إلا الشُّهداء، ولا يُوازيك إلا الفجر إذا جاء وفي عينيه عناد التاريخ!
في كل مرةٍ يترجَّل فيها بطلٌ من أبطالنا، ألوذ بالصَّمت، وأردِّد الأمنية ذاتها: «ليتني كنتُ شاعرًا، لأكتبَ نصًّا لا يموت»، قصيدةً تُخلَّد في حواشي الزمن، ويُروى بها الغائب في حضرةِ الحضور.
لكن هذه المرة، سأكتبُ رثاءً يتجاوز القصائد النائمة في مقعد الخلود، رثاءً إذا قُرئ بعد عقودٍ، نهضت الحروفُ لتشهد: هنا كانَ رجلٌ من أبناءِ الأرض!
لمَّا كانَ الأبطال ينسلونَ بخفةٍ من أحياءِ البسطاء، الذينَ لا يُنتظَرُ منهم إلا حياة باهتة، تمضي في سكونٍ وتنطفئ به، انشقت الأرضُ عن هذا الرَّاحل، نهَضَ كمن كسَرَ ناموسَ الغفلة، فداسَ قانون العادة تحتَ قدميه، وشقَّ عن نفسه ستار النسيان، وخرجَ من الحاراتِ القديمة كما ينهضُ الوعدُ المكنون من صُلبِ الغيب، إذا آنَ أوانه.
انبثق كأنما هو الفارس المنتَظَر، تتقاذفه الأرحام مذْ أُودعت البطولة في صدورِ الرجال، حتى استقرَّت فيه، وكأنما به تمَّ وعدها.
نظرَ إلى قومه، فإذا بهم هَمَلٌ تتقاذفهم أمواجُ النسيان، فصاح صيحةَ النَّذير، فهبَّ الناس خلفه، كأنَّ الكرامة استيقظت باسمه، لقد دوّى صوته في تهامة من رؤوس الجبال إلىٰ سفوح السهول، ومن القرى المطمورة إلى النجوع المنسية، حتى ما بقي موضعٌ إلا وخفَقَ فيه صدى العزيمة.
جمعَ حوله شبيبةً بلا حلم، ولا معنى، ولا مطلع رجاء، فانقلب بهم من خمول الحياة إلى صحوة المجد، انتقل بهم من حمأةِ الطِّين إلىٰ ذرى المواقف، وصاغَ من كلِّ واحد منهم بذرة تاريخ، خاضوا المعارك، واستُشهد من استُشهد، وسُطِّرت بهم صفحاتٌ ما كانت لتُكتب لولا ذاك القائد الذي أخرجهم من زُقاق الخوف إلىٰ ساحةِ الوغى، دفاعًا عن تهامة الإباء.
ولمَّا رحل باكرًا، لم يخفت أثره، وإنما انفجرت منه كينونة البطولة التي تعاقبت بها الأرحام حتى استقرَّت فيه، ثم انتثرت في رفاقه، تُكمل بهم المسير، وتُرسي بهم الحلم الذي عاش لأجله، ومات عليه.
كان الرجل الصُّلب الذي ضجَّت باسمه السَّاحات، رفضَ أن يكونَ مطيَّة للظلام، نافحَ عن الجمهورية، ووقفَ في وجه الإمامة، ومضى بالقضية التهامية إلى أبعد المدى، حتى عرفت به الشعوب أنات التَّهميش، وسمعت منه وجع الإنسان.
لم يكن يستجدي، ولا اعتاد الوقوف علىٰ عتبات السادة؛ كان يتحدثُ من امتلاء، ويقفُ من عزة، ويمضي من يقين، فلما عاجله المرض، لم يشكُ، آوى إلىٰ صبره، وترك للناس أن يعلموا، بعد الرحيل، أنَّ الجبل كانَ ينهار بصمت.
فُجِعَ الناس، لأنهم لم يعرفوا أنَّ الجسد المقاوم قد سكنه داء الفناء، فرأوا فيه حين رحلَ صدعًا في الجدار، وخسارةً بحجم الأزمنة التي أنضجت فيه البطولة حتى تلبّسته، واستحالت فيه سيرةً تُروى ولا تُنسى.
لقد نحت اسمه في سجلّ الكبار، لا بمنصبٍ، ولا بضوءٍ عابر، وإنما بالدَّم، والعرق، والموقف، والرجولة، والعنفوان، أبى إلا أن يكون صورةً للمجد، وعنوانًا يُكتب علىٰ راياتِ الصادقين.
سيأتي اليوم الذي تعود فيه ساحةُ الكرامة التي أعلن في قلبها نبذَ الخوف، والانطلاق نحو استرداد المكارم، سيُنصب هناك تمثالٌ من المعنى الخالد، سيقالُ عنه:
كانَ رجلًا في زمنٍ قلَّ فيه الرجال، مفطورًا علىٰ الشجاعة؛ ولولا تقلبات الحدث، لكان من أولئك الذين تُروى بهم الأخبار، وتُعقَد حولهم حلقات المجد.
برحيله، تخسر تهامة رجلًا كان في عينيه ظلُّها، وفي قلبه حنينها، وفي قدميه طريق العودة إليها؛ عاش لها، ومات من أجلها، ومضى مبكّرًا، قبل أن نُشبَع منه الحكاية، وقبل أن تكتمل فصول سيرته، لكنّ الله قد اختار له الرحيل في أوج العطاء، حتى لا يراه الناس إلا كما أحبّوه: واقفًا، صامدًا، كامل الهيئة والموقف.
فللهِ الحكمةُ البالغة،
وللبطولةِ عِطرُها الذي لا يَفنى،
وللراحلِ الخالد، مقامُهُ الذي لا تبلُله السنون، ولا تُغلقه الذاكرة، ما دام في الأرض رجالٌ لا يَنسون.