الإثنين - 05 مايو 2025 - الساعة 06:22 م
في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف باليمن، لم يعد الخطاب السياسي والإعلامي مجرد تعبير عفوي عن الرأي، بل أصبح جزءًا من هندسة ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي، ودفعه نحو مسارات تخدم أجندات بعيدة عن المصلحة الوطنية، مكرسةً حالة من التشتيت المتعمد ، تصرف الأنظار عن المعركة الحقيقية: استعادة الدولة وضبط المشروع السياسي.
يتحول المزاج العام إلى ساحة صراع غير متكافئ، تُستخدم فيه وسائل التلاعب الإعلامي لإثارة قضايا هامشية تُبدد الطاقات، فيما تُغيب الأولويات الوطنية لصالح سجالات عبثية تُعمّق الاستقطاب، وتعيد تعريف العدو والصديق وفق معايير تخدم مصالح خارجية أو مشاريع تفكيكية. وبين التحريض المناطقي و الشائعات المضللة، يُستنزف المواطن في معارك جانبية، تُبعده عن القضية الكبرى، وتحوله إلى أداة في معركة محسوبة تُحاك بدهاء داخل كواليس السياسة .
حين يُصبح التركيز على النزاعات الثانوية أكثر من البحث عن الحلول الوطنية الكبرى ، يتحول الإعلام إلى أداة تشتيت ، تزرع الشكوك والتخوين ، وتعمق الفرقة بين الأطياف المختلفة، بدلًا من خلق مساحة للحوار وإعادة تعريف المصالح المشتركة. وهنا يكمن السؤال الأخطر: لمن يخدم هذا التشتت الإعلامي؟ ومن المستفيد الحقيقي من ضرب أي فرصة لتوحيد الرأي العام حول الأولويات الوطنية؟
لا يمكن إنكار دور الإعلام في بناء الدول واستقرارها ، ولكن حين يُستخدم بشكل غير مسؤول ، يصبح أداة هدم ، تخلق انقسامات يصعب تجاوزها. وتشتت الجهود التي كان يمكن أن تُوظَّف في إعادة ترتيب المشهد السياسي على أسس وطنية سليمة. إن الوعي الوطني لا يُبنى على الصراخ الإعلامي، ولا على التحريض العاطفي، بل على مساحة عقلانية من النقاش والتحليل، تُعيد تعريف الأولويات بما يخدم مستقبل البلاد.
لم يعد السؤال حول المستفيد من هذه الفوضى مجرد افتراض سياسي، بل أصبح ضرورة لفهم المشهد، حيث تُدار الحملات الإعلامية على نحو مدروس لتشتيت الوعي، وتغذية الاستقطابات، وتحويل اليمن إلى ساحة دائمة للصراعات الإقليمية والدولية . فهل هي مجرد أخطاء ناجمة عن قصر النظر السياسي؟ أم أننا أمام استراتيجية ممنهجة تستهدف ضرب أي إمكانية للنهوض، وإعادة اليمن إلى نقطة الصفر ؟
يبقى الإعلام، رغم قدرته على توجيه الرأي العام، رهينًا لمدى إدراك العاملين فيه لمسؤوليتهم في ضبط المسار، حيث تتطلب المرحلة إعلامًا مسؤولًا يُميز بين الحقيقة والتضليل، ويعمل على توحيد الجهود بدلًا من تسويق الفتن وإعادة تدوير الأزمات. فكل خطاب يُشتت مسار القضية الوطنية هو سهم مسموم في خاصرة اليمن، وكل محاولة لإلهاء الرأي العام بمعارك مفتعلة هي تفكيك ممنهج للبوصلة السياسية التي كان يفترض أن تتجه نحو استعادة الدولة ومؤسساتها.
المطلوب اليوم ليس المزيد من الضجيج الإعلامي، ولا مزيدًا من التلاعب بالرأي العام ، بل إعلام وطني مسؤول يُدرك حجم الأزمة ، ويتعامل معها كمسؤولية تاريخية لا كأداة للعبث السياسي. فالإعلام، في جوهره، لا يُفترض أن يكون سلاحًا يُستخدم ضد الوطن ، بل يُفترض أن يكون مرآة للحقائق، ورافعة للوعي، ومساحة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، بما يخدم مستقبل اليمن، لا مصالح القوى العابرة.
الإعلام اللامسؤول لا ينشأ من فراغ، بل ينبثق عن أجندات خفية أو مصالح سياسية واقتصادية ، تدفعه إلى تصعيد القضايا الهامشية، وتأجيج الخلافات المناطقية، وتعزيز الاستقطاب الفكري. بدلًا من تقديم خطاب متوازن، يتحول بعض الإعلام إلى ساحة لصراعات مفتعلة، تُشغل المجتمع بمعارك جانبية ، في حين تُغيب القضايا الجوهرية ، وعلى رأسها استعادة الدولة وتعزيز السيادة الوطنية.