كتابات وآراء


السبت - 03 مايو 2025 - الساعة 11:07 م

كُتب بواسطة : الإعلامي / منور مقبل - ارشيف الكاتب










في المجتمعات التي تتعرض للقهر والاستبداد، يصبح الفن أكثر من مجرد وسيلة تعبير ، يتحول إلى سلاحٍ معنوي يُعيد تشكيل الوعي الجماعي، ويؤسس لمقاومةٍ قائمة على إحياء الهوية، ورفض محاولة طمسها أو إعادة صياغتها بما يتناسب مع إرادة السلطة القامعة.

حين يكون الصوت ممنوعًا، تكون الأغنية فعلًا من أفعال التحدي. وحين تكون الكلمات خاضعةً للرقابة، يصبح اللحن مساحةً مفتوحةً للحرية التي لا يمكن مصادرتها بسهولة.

اعتقال جماعة الحوثي الفنان خليل فرحان ليس حدثًا عابرًا، بل امتدادٌ لمنظومةٍ تسعى إلى اقتلاع كل جذورٍ تُبقي اليمنيين موحدين في وجدانهم، كل رمزٍ يعيد تعريفهم خارج الإطار المرسوم، وكل أثرٍ يُهدد الجدران التي بُنيت داخل العقول قبل أن تُبنى داخل المدن. هذا النموذج الحوثي من القمع لا يواجه الأفراد فحسب، بل يواجه الفكرة ذاتها، إذ يسعى إلى تجريد المكان من ملامحه، وإلغاء كل ذاكرةٍ تُذكّر الناس بأنهم كانوا شعبًا واحدًا قبل أن تُفرَض عليهم هويةٌ مشوّهةٌ لا تمتّ إليهم بصلة.

الفن، في جوهره، ليس مجرد ترفٍ أو مجرد ممارسةٍ إبداعية، إنه إعادة تشكيلٍ للوجدان، وتأسيسٌ للصوت الجماعي، ورفعٌ للذاكرة في وجه كل محاولات اقتلاعها. وحين يُحاصر الفن، لا يكون ذلك إلا إعلانًا عن أن هذا الكيان لا يملك القدرة على فرض هويته إلا بعزل الناس عن ذاكرتهم، وبإسكات كل ما يمكن أن يعيدهم إلى ما يجمعهم، إلى ما يجعلهم يتجاوزون الحسابات الضيقة والانتماءات المفروضة بالقوة.

الحوثيون، مثل أي جماعةٍ تسعى إلى إعادة هندسة المجتمع اليمني قسريًا، يخشون الفن لأنه يفلت من سيطرتهم. فهو لا يتقيد بأوامر السلطة، ولا يحتاج إلى تصاريح للبث، ولا يمكن ضبطه بمراسيم سياسية. الأغنية تسري في وجدان الناس دون الحاجة إلى تصريحٍ رسمي، إنها تتسلل إلى القلوب قبل أن تصل إلى الأذن، تُعيد تشكيل الشعور الجمعي، تُذكّر الناس بمن هم، وبما يجب أن يكونوا عليه.

لـماذا يخاف الحوثيون من الأغاني الوطنية … لأنها ليست مجرد كلماتٍ تُقال في المناسبات، بل هي ذاكرة مقاومة تعيد اليمني إلى جذوره، إلى هويته التي تحاول هذه الجماعة تشويهها أو تبديلها. الأغنية الوطنية تقول ببساطة: “هذا الوطن لنا، ولا يمكن أن يُختزل في جماعةٍ واحدة”. إنها تزرع فكرة الحرية دون أن تخوض معركةً سياسية مباشرة، تبني الأحلام دون أن تحتاج إلى سلاح، وتُرسّخ فكرة الانتماء دون أن تُحاصرها الأيديولوجيا.

في لحظات التحوّل السياسي، يكون الصراع على الهوية هو الأخطر والأكثر حساسية، لأن السلطة القامعة تدرك أن السيطرة على الجغرافيا لا تكفي، بل يجب أن تُخضع الوجدان الشعبي لها أيضًا. هنا، تصبح الأغاني الوطنية حالة مقاومة صامتة، لا تهتف بالشعارات، لكنها تُحرّض على التفكير، لا تحمل السلاح لكنها تزرع بذور الرفض في الوعي الجمعي.

يخشى الحوثيون من الفن لأنه لا يمكن السيطرة عليه بالكامل، لأنه يجعل القلوب متّصلةً بوطنٍ أوسع من نظرتهم الضيقة إليه، ولأنه يخلق حالةً من الحنين إلى ما قبل الحرب، إلى الوطن الذي كان لكل اليمنيين، وليس ساحةً للاستلاب والقهر. الأغاني الوطنية تذكّر اليمني بأنه لم يكن يومًا تابعًا لطائفة أو جماعة، بل كان دائمًا ابن الأرض كلها، جزءًا من نسيجٍ ثقافيٍ يمتد عميقًا في التاريخ.

المتأمل في النهج الحوثي يكتشف تناقضًا صارخًا: كيف لسلطةٍ تدّعي الثبات واليقين في مشروعها أن ترتعد أمام أنغامٍ وطنيةٍ أو نشيدٍ يتردد بين الناس؟ … النظام الذي يخشى صوتًا لا يمكن أن يكون راسخًا، فالسلطة الحقيقية تُبنى على شرعيةٍ تستمد قوتها من الناس، لا على قلقٍ مزمنٍ يدفعها لمحاربة أي تعبيرٍ حرٍّ يخرج عن نطاقها.

سلطةٌ تهتز لمجرد لحنٍ ليست سلطةً واثقةً، بل كيانٌ هشٌّ يدرك أن أدنى صوتٍ خارج إيقاعه قادرٌ على كشف ضعفه. المسألة لا تتعلق بقدرة الفن على إسقاط هذا النظام، بل بما يعكسه من حالة ذعرٍ داخليٍّ للجماعة، حيث يُصبح التعبير الفردي والجماعي تهديدًا وجوديًا لمن يسعى إلى فرض سرديته بالقوة.

يخشى الحوثيون الأغاني الوطنية لأنها توقظ ما يريدون إسكاته، لأنها تجعل الإنسان يتذكّر أن له وطنًا لا يمكن مصادرته، وحلمًا لا يمكن سرقته، ولغةً لا يمكن إلغاؤها. إنها الصوت الذي يجعل الهوية أكثر صلابة ، ويجعل القلوب أكثر جرأةً على رفض القهر. وفي النهاية، الفن هو ذلك الضوء الخافت الذي يبقى حتى في أقسى العتمات، يمنح الناس شيئًا لا يمكن لأي سلطة أن تأخذه منهم: إحساسهم العميق بأنهم أحرار، مهما حاولت القيود أن تقول غير ذلك.