اخبار وتقارير

الأربعاء - 23 يوليو 2025 - الساعة 10:45 م بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - عمار التام كاتب وباحث في الهوية والدولة الوطنية .








بعيدا عن البروتوكول المتبع بين سفارات الدول التي يتم افتتاح أقسام لتدريس لغتها في أي جامعة رسمية بعد قرائتي لخبر افتتاح جامعة إقليم سبأ أربعة أقسام لتعليم أربع لغات عالمية حسب الخبر سأسلط الضوء على اللغة التركية المحدودة قوميا ضمن الجغرافيا التركية وعمقها وامتدادها من زاوية ثقافية كوني مهتم بفكر وثقافة الهوية والدولة الوطنية.

في الوقت الذي تخوض فيه الهوية الوطنية اليمنية معركة وجودية مفتوحة أمام مشاريع طامعة وممنهجة، برز غياب شبه كامل للدور والعربي وخاصة السعودي والخليجي في إعادة بناء الهوية اليمنية ضمن سياقها العربي والإسلامي الأصيل، وترك فراغًا استغلته قوى خارجية لصالح مشاريعها الفكرية والطائفية والإمبراطورية، وعلى رأسها إيران وتركيا.

فبينما اتخذ المشروع الإيراني منحى طائفيًا وسلاليًا صارخًا يستند إلى الرواية الإمامية الزيدية ذات الطابع الفارسي، اندفع المشروع التركي في مسار عثماني ناعم يعتمد على أدوات القوة الثقافية والتعليمية والدرامية، ووجد في بعض تيارات الإسلام السياسي – خصوصًا جناح الإخوان المسلمين – بوابة جاهزة للاختراق.

استطاعت إيران، عبر جماعة الحوثي، أن تُحدث تحولًا جذريًا في الوعي العام في مناطق سيطرتها، بدءًا من تغيير المناهج الدراسية، وإدخال شعارات مذهبية، وفرض الهوية الزيدية كإطار حاكم للتدين والسياسة، وصولًا إلى افتتاح قسم اللغة الفارسية في جامعة صنعاء في تحدٍ صارخ للعروبة اليمنية.

لم يكن افتتاح هذا القسم حدثًا أكاديميًا بريئًا، بل جاء في سياق مشروع تهجيري ثقافي يراد له أن يقطع الصلة بين اليمن وهويته العربية، ويُخضع المجتمع لنمط من الوعي الديني والسياسي ذي صبغة صفوية فارسية ، يُنتج أجيالًا لا ترى في العمق العربي سندًا لها، بل في "قم" و"طهران".


التمدد التركي إختراق ناعم بالدراما واللغة.

وعلى الضفة الأخرى، لم تتأخر تركيا في توظيف أدواتها الناعمة، مستغلة حضور جناح متحالف مع المحور القطري التركي في مؤسسات الدولة في مأرب وحضرموت وتعز والمهرة، لتقوم برعاية إفتتاح قسم اللغة التركية في جامعة إقليم سبأ، رغم محدودية العلاقة اليمنية التركية في المجالات التجارية أو التعليمية أو الدبلوماسية.

لم يكن الدافع علميًا أو تنمويًا، بل جاء في إطار استراتيجية تركية تهدف إلى زرع الوعي العثماني الجديد في الجغرافيا اليمنية، مستندة إلى "الحلم الإمبراطوري " بإحياء الخلافة تحت راية إسطنبول.

وتحولت اللغة التركية، التي لا تمثل في اليمن أي أولوية وطنية، وليست لغة عالمية بل لغة قومية محدودة بالحدود التركية وأطماعها في الهيمنة، تسعى عبر حلفاءها لجعلها بوابة أيديولوجية لتمرير النموذج التركي ، في مقابل نموذج عربي متراجع ، على حساب الهوية الحضارية لليمن في سياق العمق العربي والإسلامي السني .

في مقابل هذا الزحف الثنائي، يلاحظ المراقبون غيابًا لافتًا لدور سعودي وخليجي استراتيجي في معركة الهوية اليمنية، رغم أن اليمن يقع في قلب الأمن القومي الخليجي، ويُعد ثقافيًا ووجدانيًا الامتداد الطبيعي لشبه الجزيرة، وهي الحلقة المفرغة في خطة وأهداف تحالف دعم الشرعية .

لقد انشغل التحالف العربي، خاصة في بداياته، بالبعد العسكري والسياسي، و غفل عن البعد الثقافي والمعرفي الأعمق، فلم تُخصص برامج فكرية أو جامعية لتعزيز الهوية الوطنية اليمنية أو إعادة الاعتبار للتاريخ اليمني في سياقه العربي.

وفي الوقت الذي كانت فيه إيران تؤسس لمراكز دراسات، وتُدرّس الفارسية، وتركيا تدفع بالدراما والمنح واللغة، لم نشهد مبادرة خليجية نوعية لتدريس تاريخ اليمن الحضاري أو لغاته القديمة (المسند، المهرية، السقطرية)، أو حتى إنشاء أقسام أكاديمية لدراسة الهوية اليمنية في بعدها الحضاري كبوابة فكرية للأمن الإقليمي والقومي العربي .


في مأرب، التي تمثل مهد الحضارة اليمنية السبئية التي تتجاوز النطاق السياسي الجمهوري القائم إلى العمق الخليجي والعربي ، مأرب عاصمة التاريخ اليمني القديم، يفتتح في جامعتها اليوم قسم لتعليم اللغة التركية، بينما لا يوجد قسم جامعي واحد لدراسة تاريخ مأرب أو نقش المسند أو تراث مملكة سبأ، وتعطيل دور قسم الآثار .

بل إن الثقافة اليمنية الأصيلة، التي يمكن أن تكون أحد أعمدة المشروع العربي في المنطقة، تُهمّش لصالح مشاريع دخيلة، فقط لأن الفراغ الثقافي لم يُملأ من قبل القيادة اليمنية وقيادة ونخب الأحزاب وقيادة التحالف العربي كذلك، وترك الميدان فارغاً للمشاريع الأيديولوجية العابرة للحدود.

تركيا دولة شقيقة لها تقديرها واحترامها لكن لن يكون اليمنيون مجبرون على التبعية الذنبية بين القومية الإيرانية الفارسية وهيمنة الولي الفقيه ، وبين التبعية المقابلة للقومية العثمانية التركية وطموحها السلطاني والإمبراطوري الأردوغاني والإخواني .

اليمن له هويته الحضارية الوطنية المستقلة في سياق عمقه وامتداده الخليجي والعربي والإسلامي وتأتي علاقته بتركيا في هذا السياق التكاملي التعاوني الذي يرفض التبعية الذنبية لمشاريع إيدلوجية عابرة للحدود بقيادة طهران أو أنقره.

إن الهوية لا تُحمى فقط بالبندقية، بل تُحمى بالوعي، واللغة، والتعليم، والتاريخ.

وما لم تبادر القيادة اليمنية بدعم من الدول الخليجية وشقيقاتها العربية إلى إطلاق مشروع متكامل لاستعادة الهوية اليمنية وبنائها على أسس قومية حضارية إسلامية معتدلة، فإن المشاريع المنافسة – مهما كانت متناقضة فيما بينها – ستجد في اليمن ساحة مفتوحة للهيمنة والتطويع والتأطير ، لأن الفراغ لا يبقى فراغًا، بل يملؤه من يمتلك الأدوات والرؤية والإرادة، كما أن إرادة اليمنيين في تمسكهم بهويتهم ورفضهم الارتهان والتبعية لمشاريع والاستلاب والتجريف الحضاري لليمن أقوى من أي نفوذ وأمضى من أي سلاح صلب أو ناعم .

يتعين على القيادة اليمنية في مجلس القيادة الرئاسي والأحزاب السياسية والنخب اليمنية إطلاق تحالف ثقافي وتعليمي يمني خليجي عربي لتعزيز الهوية الحضارية اليمنية ومواجهة المشاريع الأيديولوجية بقيادة طهران أو أنقره التي تسعى للهيمنة والاستلاب الحضاري لليمن .

ومن أهم ما يتضمن مشروع التحالف الثقافي العربي دعم إنشاء معاهد وأقسام في الجامعة لدراسة التاريخ الحضاري لليمن ودراسة اللغات اليمنية القديمة (المسندية، المهرية، السقطرية) كجزء من مشروع وطني جامع يمثل عمق وامتداد خليجي عربي أصيل يعزز الأمن الإقليمي والقومي العربي .


تبني مشروع "الهوية اليمنية في السياق العربي" برعاية خليجية وعربية ، يشمل الإعلام، والتعليم، والفكر ، ومراجعة المناهج التعليمية في مناطق الشرعية، وتنقيتها من اختراقات الأجندات الإيرانية والتركية كمشاريع هيمنة إيدلوجية عابرة للحدود،
ومن خلال إعادة توجيه الدعم الخليجي ليشمل البنية الثقافية والمؤسسات الفكرية اليمنية بعد عشر سنوات من سعي جناح تركيا داخل الشرعية لتغييب وتهميش المسار الثقافي الوطني بطريقة متعمدة.

كما أن غياب الدور الخليجي في دعم الهوية اليمنية في بعدها العربي ليس مجرد تقصير، بل فراغ خطير تستغلّه قوى خارجية لإعادة تشكيل وعي اليمنيين بما يخدم مشاريع غير عربية.

من المؤسف القول إذا لم تتحرك القيادة اليمنية ومعها المملكة العربية السعودية وبقية الدول العربية لقيادة مشروع متكامل لإعادة بناء الوعي اليمني على أسس حضارية قومية جمهورية متجذرة، فسنشهد مزيدًا من التفتت الثقافي والانزلاق نحو التبعية الأجنبية في مناطق سيطرة الشرعية ونجاح لتجريف الهوية اليمنية وتشييع المجتمع تحت سيطرة الكهنوت السلالي الحوثي.

اليمن ليست مجرد ساحة نزاع عسكري، وخامات اقتصادية ، وموانئ وسواحل وجزر وأرخبيلات فقط ، بل هي ساحة معركة على الهوية اليمنية والعربية.... معركة على الذاكرة... وعلى المستقبل.

مأرب الحضارة والتاريخ .