اخبار وتقارير

الثلاثاء - 06 مايو 2025 - الساعة 09:20 م بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - بقلم إلاعلامي منوّر مقبل








في لحظاتٍ مفصليةٍ من تاريخ الدول، يصبح الصوت الذي يمثلها أكثر أهمية من أي إجراءٍ سياسيٍ آخر. ليس لأن الكلمات تصنع الواقع، بل لأنها تحدد معالم الطريق، وتُرسم من خلالها المواقف، وتُصاغ بها الرسائل التي تتجاوز القاعات الدبلوماسية لتصل إلى مراكز صناعة القرار العالمي. وحين يكون الموقف الوطني على المحك، يصبح الحديث في المنابر الدولية اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الدولة على فرض سرديتها، لا على الاكتفاء برواية المخاوف، دون تقديم بدائل تُعيد رسم المشهد السياسي.

في مقابلة نائب وزير الخارجية اليمني، مصطفى نعمان، مع قناة PBS الأمريكية، لم يكن التصريح عاديًا، بل كان انعكاسًا لتناقضٍ حاد بين ما تحتاجه الدولة من خطابٍ يؤكد وجودها، وبين ما تم تقديمه كتحليلٍ يُشبه أكثر ما يطرحه المراقبون، لا الممثلون الرسميون.

حين يقول مسؤولٌ يُفترض أنه يتحدث باسم الدولة إن البديل عن الحوثيين هو الفوضى، فهو لا يطلق تصريحًا هامشيًا، بل يرسم مستقبلًا مظلمًا أمام المجتمع الدولي، ويؤكد – دون قصد – سردية الجماعة التي طالما حاولت إقناع العالم بأنها الخيار الأقل سوءًا، لا الطرف الذي يُمكن أن يُستبدل بمشروعٍ وطنيٍ بديل.

السياسة ليست مجرد تقديم المواقف، بل هي معركةٌ تُدار بالدقة والحنكة، حيث تُستخدم الكلمات كما تُستخدم الجيوش . وإذا كان الخطاب اليمني الرسمي بحاجةٍ إلى تعزيز حضوره، فإن هذا لا يحدث من خلال الاعتراف بالفراغ، بل من خلال تقديم البدائل التي تُبرهن على قدرة اليمنيين على فرض خياراتهم بعيدًا عن سلطة الميليشيات. المشكلة الحقيقية لم تكن فقط في مضمون التصريح، بل في افتقار الخطاب إلى الثقة والإيمان بإمكانية إحداث تغييرٍ حقيقيٍ في المشهد اليمني، وشرعنة وجود مليشيا الحوثي متسيدة للمشهد اليمني، وهو ما يترك أثرًا مباشرًا في كيفية استقبال العالم لهذا الموقف، سواء في دوائر صنع القرار أو في مراكز الإعلام التي تعيد تدوير هذه الرسائل لتتحول إلى جزءٍ من التقييم السياسي للوضع اليمني.


إذا كان الموقف اليمني بحاجة إلى تعزيز الثقة الدولية بالشرعية اليمنية، فإن هذا لا يحدث فقط عبر المطالبة بالدعم العسكري، بل عبر إظهار قدرة اليمنيين على استثمار هذا الدعم بفعالية، لأن القوى الدولية لا تنصت إلى الخطابات العاجزة، بل إلى تلك التي تحمل رؤىً واضحةً، وإرادةً سياسيةً تُعبّر عن مشروع متكامل، لا مجرد مطالب تُلقى في الفراغ. لهذا، فإن مراجعة الخطاب السياسي باتت ضرورةً ملحّة، ليس فقط على مستوى العبارات المستخدمة، بل على مستوى الاستراتيجية التي تُدار بها المواجهة السياسية والعسكرية مع الحوثيين.

ولعلّ أبرز إشكالية في هذا التصريح لم تكن فقط في صيغته، بل في عدم استثمار المنصة الدولية لتقديم موقفٍ يُظهر استعداد الدولة لمواجهة التحديات، بدلاً من الاعتراف – ولو ضمنيًا – بأن الوضع اليمني محكومٌ بمنطقٍ أحاديٍ لا يُمكن الخروج منه. القوى الدولية لا تتعامل مع الدول بناءً على حاجتها للمساعدة، بل وفقًا لمقدار قدرتها على استثمار الدعم الدولي، ولهذا فإن أي حديثٍ يُوحي بالعجز لا يؤدي إلى تحفيز المساندة، بل إلى إرباك الحلفاء وإضعاف الموقف الوطني.

السياسة لا تُبنى على القلق، بل على رسم السيناريوهات الممكنة، وتقديم الحلول لا الانشغال بتوصيف الأزمات فقط. إن ما تحتاجه اليمن اليوم ليس فقط خطابًا قويًا في مواجهة الحوثيين، بل خطابًا قادرًا على استثمار الجهود الدولية لدعم خيار الدولة، وليس مجرد تعزيز سردية الفوضى التي تخدم الجماعات المسلحة . حين يتحدث مسؤولٌ دوليٌ باسم بلاده، لا يُطلب منه أن يكون مراقبًا أو محللًا سياسيًا، بل أن يُمثل مشروعًا، يُعيد إحياء مفهوم السيادة، ويؤكد أن البدائل ليست مجرد احتمالاتٍ نظرية، بل خياراتٌ قابلةٌ للتنفيذ بقرارٍ سياسيٍ واضح.

الإعلان

النقد هنا لا يتعلق بشخص نائب الوزير، بل بالمؤسسة السياسية التي ينبغي عليها أن تُعيد النظر في كيفية إدارة حضورها الإعلامي والدبلوماسي على المنصات الدولية، وأن تدرك أن هذه المنصات ليست مساحةً للارتجال، بل أدواتٌ تُصاغ عبرها الرسائل التي تحدد طبيعة الدعم الدولي. ما تحتاجه اليمن اليوم ليس مجرد مطالبةٍ متكررةٍ بالمساعدة، بل خطابًا سياسيًا يُبرز البدائل الوطنية كخيارٍ قابلٍ للحياة، يعكس الإرادة الشعبية، ويؤكد أن اليمن لا يحتاج إلى جماعةٍ مسلحةٍ لضمان استقراره، بل إلى قرارٍ سياسيٍ يُطلق إمكانياته المكبوتة، ويُعيد تشكيل معادلة الصراع وفقًا لمنطق الدولة لا الفوضى.

في نهاية المطاف، لا يجب أن يكون الحديث عن هذه التصريحات مجرد انتقادٍ عابر، بل فرصةٌ لإعادة النظر في كيفية إدارة الخطاب الرسمي، وكيفية تقديم اليمن للعالم بوصفه دولةً تمتلك مشروعًا، لا ساحةً تبحث عن من يملأ فراغها. لأن الدول تُبنى بالكلمات كما تُبنى بالمواقف، وبالقدرة على رسم المشهد كما بالقدرة على تغييره.

وما يحتاجه اليمن اليوم ليس فقط معركةً عسكرية، بل معركةً سياسية تُعيد تعريف منطق الشرعية، وتجعلها خيارًا قابلاً للحياة، لا مجرد ضرورةٍ تتطلب الدعم دون أن تُثبت قدرتها على إدارة المشهد.

ربما يكون هذا التصريح قد أثار موجةً من الجدل، لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام إعادة صياغة مفهوم التمثيل السياسي، وإدراك أن اللغة التي تُستخدم أمام العالم تحدد شكل المعركة السياسية بقدر ما تحددها الجبهات العسكرية. وحين يكون الحديث عن الدولة، فإنه يجب أن يكون صوتًا يُعبر عن استمراريتها، لا عن مخاوفها وحدها، لأن السياسة، في نهاية المطاف، لا تعترف بالهواجس، بل فقط بالحقائق التي تُفرض، لا التي تُناقش دون قرارٍ يحوّلها إلى واقع.