صدى الساحل - بقلم الخبير الاقتصادي - د. عبدالرحمن حيدره
في مفارقة مؤلمة تعكس ضياع البوصلة في كثير من السياسات العامة العربية، تواصل بعض الدول إنفاق ملايين الدولارات على استيراد رؤى اقتصادية من جامعات ومراكز بحثية أجنبية، في الوقت الذي تُقصى فيه الكفاءات الوطنية من مواقع التأثير الأكاديمي والاستشاري. يُعامل علم الاقتصاد – على خلاف ما يفترض أن يكون – كعلم ثانوي أو زينة نظرية، بينما يُمنح صناع الرؤى من الخارج دور القيادة، حتى وإن كانت نتائجهم لا تعكس فهمًا معمقًا للواقع المحلي ولا تستند إلى استشارات مجتمعية حقيقية.
نماذج واقعية مدعّمة بالأرقام:
1. السعودية – تعاقدات ماكنزي (McKinsey):
دفعت الحكومة السعودية أكثر من 10 ملايين دولار لشركة "ماكنزي" لإعداد أجزاء من رؤية 2030 وإصلاحات القطاعات الحكومية، بما فيها النقل والصحة والتعليم.
تعرّضت الخطة لانتقادات محلية لأنها "منفصلة عن الواقع الاجتماعي" و"مستوردة من قوالب غربية جاهزة".
2. لبنان – عقد مع شركة Strategy& (الذراع الاستشاري لـ PwC):
كلّف إعداد "الخطة الاقتصادية الإصلاحية 2020" أكثر من 3.2 مليون دولار، في ظل اقتصاد منهار وانهيار العملة.
لاحقًا، رفض البرلمان الخطة بسبب غياب التشاور مع الخبراء المحليين والمجتمع المدني.
3. ليبيا – الدراسات الاقتصادية بعد 2011:
تعاقدت الحكومات المؤقتة مع مراكز أبحاث أمريكية وإيطالية لإعداد "خطة إعادة الإعمار"، بكلفة تجاوزت 6 ملايين دولار، رغم وجود أساتذة اقتصاد ليبيين مشهود لهم عالميًا.
4. العراق – عقود استشارية مع AUB وUNDP والبنك الدولي:
أكثر من 15 مليون دولار أُنفقت على إعداد "استراتيجية التنمية الوطنية 2030" بين عامي 2017 و2021.
كثير من التوصيات كانت تقليدية أو متكررة، كما اعترف بذلك تقرير داخلي للجنة التخطيط العراقية.
5. دول الخليج – الاعتماد على مراكز فكر غربية:
تُقدّر كلفة العقود الاستشارية المبرمة بين دول الخليج وجامعات مثل هارفارد وأكسفورد وستانفورد في الفترة 2015–2023 بأكثر من 500 مليون دولار.
تشمل العقود تطوير خطط اقتصادية، سياسات الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والمدن الذكية.
المفارقة الصادمة
كل هذه المبالغ أُنفقت في دول تمتلك طيفًا واسعًا من الكفاءات الاقتصادية المحلية. في حين تُقابل طلبات خبراء الاقتصاد الوطنيين بالرفض، وتُمنع الاقتصاديّات (نساءً ورجالاً) من التدريس أو المشاركة في صياغة القرارات، بحجة "الاختصاص الأكاديمي الضيق"، رغم مرونتهم وقدرتهم على التدريس والتحليل عبر مختلف فروع العلوم الإدارية.
توصية خاصة للاقتصاد اليمني:
في الحالة اليمنية، حيث يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، ويُصنف الاقتصاد بأنه واحد من أكثر الاقتصادات هشاشة في العالم ، فإن إعادة الاعتبار للاقتصاديين المحليين ضرورة وطنية لا ترف علمي. إن تجاهل العقول الاقتصادية الوطنية – سواء في الجامعات أو مراكز الأبحاث – ليس فقط تهميشًا غير مبرر، بل هو مساهمة مباشرة في استمرار الانهيار.
التوصية:
ينبغي على الجهات الرسمية (الحكومة، البنك المركزي، وزارة التخطيط، الجامعات) أن تعتمد استراتيجية وطنية تشمل:
تفعيل مراكز دراسات اقتصادية يمنية مستقلة.
إشراك أساتذة الاقتصاد في صياغة السياسات العامة، لا كمستشارين هامشيين بل كركيزة أساسية.
وقف استيراد الخطط الاقتصادية الجاهزة، وبدلاً من ذلك تمويل أبحاث تطبيقية يقوم بها يمنيون، يفهمون تعقيدات الواقع المحلي من الداخل.
د. عبدالرحمن احمد حيدره
أستاذ الاقتصاد المساعد بجامعة الحديده