كتابات وآراء


الأحد - 15 أغسطس 2021 - الساعة 06:02 م

كُتب بواسطة : د. خالد بريه - ارشيف الكاتب



كنتُ على وشكِ النوم، وصلتني رسالة من صديق، تحملُ بضع صورٍ متهالكة، ألهبت وجعي، أزحتُ النوم جانبًا، وجدتني أكتب، كأني أعالج رجع الصدى في داخلي، لا حلَّ لإنسانٍ مثلي للتخلص من وجعه إلا بالكتابة، ليشعر بشيء من الارتياح، والهروب أحيانًا، وإني ناقلٌ لك ما أثارته تلك الصور في نفسي، لأضعه بين أيديكم، علها أن تجد صداها في لحظة فارقة من الإحساس بالآخر.. الإنسان المنسي في رمال التهميش!

قبل أعوامٍ مضت، كنتُ في أحد مقاهي صنعاء الفاخرة، نتحدثُ حول بعضِ القضايا، تطرقنا ليلتها إلى مؤتمرِ الحوار، ومن ثمَّ الأقاليم التي لم تر النور، مرورًا بالحديثِ عن المدن وإنسانها، فكانَ لزامًا أن أتحدثَ عن تهامة، وفراغات النسيان!

كان معنا في تلكمُ الليلة، مثقفٌ من الهضبةِ المقدسة، يتقنُ كل عادات المثقفين، بحرفيةٍ متقنة، لفظًا، وسلوكًا.. وبعد أن نفخ الدخان من فمه، قال في كلمةٍ عابرة: "أبناء الحديدة حق مترات"، وكان يظنُّ أنَّ الكلمة ليلتها ستمرُّ بسلام، لكنها قعقعة الحرب التي سُمعت وقائعها في كلِّ أطرافِ المقهىٰ، الأمر الذي جعله يعتذر بأنها زلة لسان، وأنه لم يكن يقصد! ثم خرج يجر أذيال الحَرج الذي أوقعَ نفسه فيه!

كلمته التي فرَّتْ من لسانه؛ يستطيبُ بعضهم أن يتفوه بها، بناءً على واقعٍ يراه، مفادها دون استدعاء لأداةِ التأويل: أنهم ليسوا مؤهلين لعلم، وقيادة، ولا قدرة لديهم ليكونوا مثقفين يجمعونَ بين الدخانِ والقهوة والفهلوة..!

هؤلاء، لا يعلمونَ أو أنهم يتناسون، أنَّ تهامة كانت مهدًا للعلم، ومربعًا من مرابعِ الفقه، والحكمة، وعلوم اللغة، والطب، والفلك، والزراعة، والكيمياء، والجبر، والحساب، والمساحة..، كان يأتيها طلبة العلم من كلِّ أطراف الدنيا، يوم كان غيرنا يعيشُ في الكهوف، ويتمرغ في وحلِ الجهل، وأقبية الظلام، يوم كانوا كذلك، كانت المتون تُكتب، والمدنُ تُخطط، والأشعار تتلىٰ، والمصنفات تشقُّ طريقها إلى زوايا العلم، ورياضه، وأربطته..!

كانت مدنُ تهامة، حواضر للعلم، ينقلونه كابرًا عن كابر، وتجري الأسانيد بينهم، ولو سألتَ أعمدة المساجد والمدارس العتيقة في زبيد، والمراوعة، والمنيرة، والزيدية، وبيت الفقيه؛ لأجابت بصوتٍ مبين عن خبرِ العلوم، وحيوات المعرفة، وتاريخ الأيام الخوالي في رحابِ المحبرة، وبهاء الكتاب..!

قدِمَ إليها العلماء واستظلوا بظلالها، وضنوا بأنفسهم أن يبرحوا ترابها، وفي ساحتها ظهر "عنوانُ الشّرف الوافي"، و "القاموس المحيط"، و "تاج العروس" أحد أهمّ النتاجات العلمية الخالدة التي أبدعتها زبيد، فقد مثل الأخير "ذروة نتاج المعاجم اللغويّة".

جاء في تقرير البيان عن زبيد العلم: "احتلت مدينة زبيد مركزًا ثقافيًا عالي المستوى في الربع الأخير من القرن الثامن الهجري، بعد أفول أو تضاؤل أهمية المراكز الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي، مثل بغداد ودمشق والقاهرة، وأُحصيت المؤسسات الثقافية فيها في أواخر القرن الثامن الهجري فبلغت مائتين وبضعًا وثلاثين موضعًا على ما صرح به الخزرجي "ت812هـ"، ومن بعده ابن الديبع الشيباني "944هـ"، وهذا العدد يشير بجلاء إلى أهميتها من الناحية الفكرية في الحقبة التي تولىٰ فيها الملك الأشرف إسماعيل الغساني "803هـ" أمور الدولة الرسولية".

مدن تهامة كانت محطة لا غنىٰ عنها لكلِّ زائر ورحّال من الشرق والغرب، قدم إليها ابن بطوطة، رحالة العرب، وقال فيها كلمةً شهيرة: "زبيد مدينة عظيمة باليمن.. وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين، كثيرة الفواكه من الموز وغيره.. كثيرة العمارة، بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها، ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور".

لم يرد لهذا الزخم العلمي أن يستمر، منذ قرنٍ من الآن، وتهامة تعاني التجهيل بطرقٍ ممنهجة، الأمر الذي دفعَ المثقف آنفَ الذكر، أن ينزعَ عنهم كلّ شيء، إلا أنهم أصحاب مترات! لكنه لم يسأل نفسه: لماذا لجؤوا إلى المترات؟!
من الأمور التي أسهمت في هذا التشكل الذهني لدىٰ الآخر عن تهامة وأبنائها، غياب الكوادر العلمية في الساحاتِ المعرفية، والغيابُ هنا لا يعني العدم، وإنما تعني: رغبة في العدم من قبلِ الآخرين، لحصر قنوات المعرفة، ورجالات العلم والقيادة في مناطق دونَ أخرى؛ وتلك قصة شهيرة لا تخفىٰ على أحد.

ولو تمعنتَ في أحد روافد الوعي، وتشكيل العقل الذي يتم عبر البعثات التي تقومُ بها الدولة، ثم شرعت في مقارنةٍ يسيرة، لاتضح لك أنَّ أقل المبتعثين منذ العام 1990م، هم أبناء تهامة، وهذه إحدى المظالم التي لم يتنبه لها الكثير، وتكمن خطورتها في كونها من أهمّ روافد المعرفة، وبناء الشخصيات والكوادر القيادية التي يُفترضُ ويناطُ بها إفادة الوطن، والإسهام في إصلاحه!

نعودُ إلى الرسالة التي وصلتني..
بعثَ أحدهم بمجموعةِ صور لمدرسةٍ ابتدائية في ريف تهامة، لا أجد عليها تعليقًا، سأكتفي بوضعها أمامكم، تأملوا فيها، ثم تخيلوا أنَّ أبناءكم يتلقون العلم بداخلها، حاولوا أن تتخيلوا ذلك، هذه مدرسة في تهامة العلم، تهامة الذي سال منها العلم حتىٰ فاضَ في صدورِ الرجال!