كتابات وآراء


السبت - 28 يناير 2023 - الساعة 12:34 ص

كُتب بواسطة : د. خالد بريه - ارشيف الكاتب


في سنواتِ العُمْر المنصرِم، كنتُ مولَعًا بتتبُّعِ أهمّ الخطباء، في أغلبِ مدنِ اليمنِ الكبير، ولعلي سمعتُ أكثرهم، وحضرتُ لهم، لكن في حياتي، ما سمِعْتُ خطيبًا، محنَّكًا، لَسِنًا، عبقريًّا، يحترمُ المتلقي الذي يجلسُ بينَ يديه منصِتًا، مثله، كانَ يُنْظَر إلىٰ خُطَبِه كأنَّها خريدةٌ فريدة، لا علاقة لها بخطَبِ الجمْعَة التَّقليدية التي تُلقىٰ إسقاطًا للواجبِ بهيئةٍ رتيبة.

كانَ جامعه في مدينتنا، يأوي إليه من أرادَ أن يسمَعَ شيئًا مختلفًا، وعند الأزماتِ الكبرى، لن تجدَ مكانًا في صحْنِ الجامعِ قبل الخطبة بساعتيْن، وإن كنتَ محظوظًا ستصلي في قارعةِ الطَّريق، دونَ النَّظر أو الاهتمام بحرِّ المدينة، وقيْظها الملتهب!

لم يكن مجرد خطيب، أو واعظ عابر، كانَ حظُّه من العلومِ كبيرًا، وملكته الأصولية حاضرة، وله سهمة في الفقه، ودروسه في السِّيرة، عامرة، وله فيها من اللطائف والنّكات العلمية، ما تطيبُ به الرُّوح، ولعل أهم ما يستوقفك قدرته المدهشة علىٰ تحويل السِّيرة النَّبويَّة من «وقائع تاريخية إلىٰ واقعٍ حاضر» يتشكلُ بينَ يدي النَّاس.

بدا لي مذْ كنتُ صغيرًا، أنَّ الشَّيخ الزَّاهد الشُّجاع إسماعيل عبد الباري، مَلِكٌ، بتاجٍ من مهابةٍ حاكته يدُ العنفوان، كان مهابًا إلى حدٍّ لا يُصدَّق، وصادقًا بكلِّ ما تعنيه الكلمة من حمولةٍ دلالية، وشُجَاعًا إلىٰ درجة أن تتحول مواقفه إلىٰ حكايا فيها شيء من الأسطورة تُحكىٰ في قلبِ المجالس، وفيه من الزُّهْد حتىٰ أنكَ تألفُ النَّظر إلىٰ ثوبه القديم، المخرَّق، أحيانًا، وهو العالمُ، الخطيبُ، والأستاذ الجامعي، ومهيبًا حتىٰ تشعرُ أنه خُلِقَ من تربةِ الأنَفَةِ والكبرياء!
كانَ بسيطًا، لأنه يعلمُ أنَّ «البسطاء» هم سادةُ العالَم، وهم من يُعْطونَ الحياة الدَّوافع المحرِّكة، هم بُنَاتُ الحضارات، وصنَّاع السَّعادة البشرية، هم أولياء الله الصَّالحين.

قَلِّب النَّظَر، واترك لأذنيكَ سماع قطعةٍ من حياته؛ وزهده، وسيرته بينَ الخَلق، ورغبته عن الدُّنيا، وإقباله علىٰ ما يراه حقًّا، واعتزازه بدينه، وهمُّ الأمَّةِ العظيم الذي يحمله بينَ ضلوعه، قلِّبِ النَّظر، ستجد أخبارًا عن رجلٍ من بقايا الكبار، مضمَّخة بالنُّبل، والكرامة، والاعتماد علىٰ الإله وحده دونَ غيره من الخلائِق!

رجلٌ بحجمِ ابن عبد الباري، ابن تهامة البار؛
لو أرادَ أن يعيشَ حياةَ الأثرياء، المتْرفيِن، لكانَ له ذلكَ بإشارةٍ منه، لكنَّه ممن وافَقَ قوله فِعاله، وأزعمُ أني شاهدٌ على قصصٍ وقفتُ عليها، كانَّ الشَّيخ فيها ورِعًا، عفيفًا، نائيًا بنفسه عن قبول أي شيء تحتَ أي مسمى، لم يكن اعتماده إلا علىٰ خالقه الذي يملأ نوره جنبات قلبه، رفضَ - ولا يزال - أن تُمدَّ له يد الأعطيات، وأن يكون ثقيلًا علىٰ غيره، أبىٰ أن يحظىٰ بما هو مستحِقٌّ له، باسم مكانته، وحضوره في قلبِ محبيه، عاشَ لله، ويدخل الآن عتبة السبعين، ولا حضور في قلبه إلا الله.

حين وقعتِ الواقعة، وسقطَتِ البلاد، وبدأت الحرب، وشَرَعَ النَّاس في هجرةٍ إجبارية إلىٰ أرضِ الله الواسعة، خرجَ الشيخُ بلا ضجيج إلىٰ بلادٍ نائية، حالها لا يختلفُ عن المكان الذي خلَّفَه وراءه، ولو أراد أن يعيشَ معزَّزًا في إحدى دول الجوار النَّاعمة، تُجرىٰ عليه الأموال، ويعيشُ في بحبوبةٍ كغيره، لما أعياه، بل طُلِبَ منه، لكنَّه أبىٰ، وأَمَّ أرضَ الصُّومال، في مكانٍ بعيد، يعيشُ وحده، خامل الذِّكر، يقتاتُ من تدريسه الجامعي، ما يقيمُ حياته في تلكَ البلاد.

إسماعيل عبد الباري، كانَ يضجُّ المدينة بخطبه، ومواقفه الشُّجاعة، وحضوره المهيب، الرَّجل الذي كان أكبر من حاكم مدينة، وأعظم هيبة من ملكٍ متوَّج، الأبيُّ الذي تشبَّه بالكبار في عزَّةِ نفسه، وصون كرامته، النَّبيل الذي رغبَ عن الالتفات إلى ما عند غيره، الكريم الذي عاشَ نظيفًا، يحمل سيرته الناصعة معه إلىٰ مهاجَره البعيد، تضربه الأمراض، وتصيبه الغربة بلأوائها، يعيشُ كفافًا، صونًا لنفسه من ذلِّ السؤال، ولعنة الحاجة، يعمل بعرق جبينه، ينزوي منهكًا، مريضًا في منزله دون أن يعلمَ به أحد، ولو أراد لامتلأ صحن الدَّار؛ لكنه عافَ كلَّ شيء، وقرَّر أن يسير علىٰ الدَّرب الذي اختطه مذْ بايعَ الإله بروحه، وحياته، نصرةً للقضية التي يحملها في ضلوعه.

لا يزال الشَّيخ هو هو، حتىٰ يلقىٰ الله، بحوله قوته،
شامخٌ بعزته، لا مطمعَ له في شيء مما يتكالبُ عليه النَّاس، يدلفُ بصمتٍ إلىٰ بوابة العقد السابع. كأني به بين حين وآخر، يتذكر منبره العالي في جامعِ الرَّحبي، ودروسه في مساجدِ المدينة، وجامعتها، ومواقفه المزلزلة في الأزمات، وصوته المرتفع عن الحروب التي اشتعلت في جسدِ الأمَّة، سلوا عنه بغداد، والفلوجة، سلوا عنه غزَّة التي تسكنه، سلوا عنه كل قضايا الأمَّة المصيرية الكبرى = تنبئكم عن رجلٍ شريف لم يخف، ولم يبدِّل، كانَ صوتًا للمظلوم، ولسانًا للضُّعفاء، ونصيرًا لكلِّ مسلم يعيشُ في جهات الدُّنيا الأربع، لقد كانَ رجلًا عزيزًا.. وكفى.

لعلَّ ما ذكرته عن الشيخ لا يمنح جديدًا لمن عرفه، أو عرف شيئًا عنه، لكني أكتبُ لجيلِ الحروب الذي لم يقف منصتًا له، ولم يشعر برعدةٍ بينَ ضلوعه عندما يعلو صوته، لم يسمع زمجرته الهادرة عند حديثه عن بغداد وغزة.. وبقاع الأرض المستضعَفة من قوىٰ الطغيان، لم يعرف طرَفًا من أخباره، ومواقفه النبيلة، لهؤلاء أقول: هذه سيرة شيخٍ كان بيننا، اضطرته الحرب إلىٰ الرَّحيل، فهل علمتم عظم الفقد الذي تسببت به الحرائق؟!

*المقال منقول من صفحة الكاتب بالفيس بوك