كتابات وآراء


الجمعة - 05 يناير 2024 - الساعة 12:50 ص

كُتب بواسطة : د. خالد بريه - ارشيف الكاتب



رحلَ إلىٰ الله يوم الخميس، 22. جمادىٰ الآخرة. 1445هـ. الموافق: 4. يناير. 2024.

في مرحلةِ البكالوريوس درسَّني بعضَ الموادِ المقرَّرة، ومما أذكره أنَّ أحد زملائي كانَ صوته حسَنًا، فقرأ أمامه بصوتٍ شجيٍّ، فبكىٰ، ولم يتمالك نفسه، تركَ القاعة يومها ولم يعد! وما رأيناه إلا بسَّامًا، بشوشًا، متواضعًا، محبًّا للعلم، وأهله، مقدِّرًا لزملائِه وطلابه.

ثمَّ انتقلَ للعملِ مديرًا لمكتبِ التَّربية والتعليم، - خسرته الجامعة في هذه الفترة - وأحدثَ فيها تغييرات ظاهرة، وكان في عهده تفعيل قرار توحيد الزَّي المدرسي والعمل به، وفي صباح أحد الأيَّام، قدِمت طالبة مع أخيها إلىٰ المكان الذي أعملُ فيه، تبكي من مُدَرِّسة طردتها من المدرسة بسببِ الزَّي الدراسي، وكانت الفتاة فقيرة، فحزَّ الأمر في نفسي، اتصلت بالدكتور علي، وأخبرته بالأمر، ودار بيننا حديثٌ طويل، عادت الفتاةُ إلىٰ المدرسة مكرَّمة، ونزلَ بعدها قرار إعفاء من لا قدرة لهم علىٰ شراء الزي، مع ترتيب وضعهم داخل المدرسة. وخبره عن قضاءِ الحوائجِ مستفيض!

ثمَّ في مرحلةِ الماجستير أعفيَ من منصبه، وعادَ إلىٰ الجامعة مرة أخرى، حضرَ مناقشتي لخطَّةِ الماجستير، ولم يكن ضمن اللجنة، في أثناءِ المناقشة، تحدَّثَ عن العنوان، واعترضَ عليه، وأصرَّ أن يكون منهج الدراسة مقارنة بينَ النَّص القرآني والكتاب المقدَّس (التوراة والإنجيل)، لحظتها لم أكن أستوعبُ الفكرة، وفي داخلي طوفانٌ من الحماس، فندت من فمي كلمة، أغضبته، فخرجَ من القاعةِ بسببها، فأحسستُ بالحرج، إذ لم أكن أقصد، وما رجوتُ أن يصلَ الأمرُ إلىٰ هذا الحد.

في المساءِ زرته في منزله، قبلتُ رأسه، طلبتُ منه العفو، قابلني بكلِّ حبٍّ وتقدير، ثمَّ قال لي: ركز معي، شرح لي فكرته، حتىٰ أحسستُ بالخجلِ من جهلي، ثمَّ أخرج رسالته الماجستير، وقال لي: ستنتفع بها. سُجِّلَ الموضوع رسميًّا، ومن محاسن القَدر كان مشرفي علىٰ الرسالة.

بدأتُ الكتابة، في الرسالة، أنهيتُ الفصل الأول، أرسلته إليه، وعندما سلمه لي مرة أخرى، كان بلونِ الدَّم، كله أحمر في أحمر من كثرةِ الملحوظات، والأخطاء التي وقعتُ فيها، وقال لي: اترك أسلوب الأدب في الكتابةِ العلمية، وتخلص من روح الأديب في هذا الموطن. ثمَّ شرحَ لي كل ملاحظة، وأفادني بما لم أفد منه في مادةِ المناهج التي درستها، وأوقفني علىٰ دقائق البحث العلمي، والإفادة من المعلومة، والتعامل معها، وحفرَ في ذهني كيفَ يكونُ البحث وكيفَ يُكْتَب!

ثمَّ شددتُ الرحالَ إلىٰ مصرَ لعلاجِ والدي، وشرعتُ في إتمام الرِّسالة هناك، كانَ لا ينقطعُ التَّواصل بيننا، كنتُ أستيقظ من النَّوم، أجد رسالةً منه، يدلني علىٰ مرجعٍ مهم، ورسالة أخرى يستحثني الوصول إلىٰ كتابٍ نادر يفيد في موضوعنا، وكان يرسلُ لي أي شيء له تعلقٌ ببحثنا، حتىٰ أشعر بالخجل منه.

كنتُ إذا أنهيتُ فصلًا أرسله إلىٰ الزميل الدكتور منير مذكور يطبعه، ثمَّ يسلمه له، ثمَّ يعيده بلونٍ أحمر، كما هي العادة، فأفيد من ملاحظاته، ونفذات نقده، بقينا على هذا المنوال حتىٰ أنهيتُ الرسالة، وأرسلتُ له الفصل الأخير، فأعاده ولم يعدل كلمةً واحدة، وبقي فخورًا بهذا التطور، يذكره دومًا.

يوم المناقشة، وقفَ بجانبي، ودافعَ بحب عن الرسالة، وشرح بعض النقاط للجنة، ورافعَ عن بعضِ الملحوظات، وكان يومًا جميلًا بهيًّا حضره كبار علماء المدينة، وبعد الانتهاء منها، قال لي الزملاء: هنيئًا لك بهذا المحامي الفذ، وهنيئًا لك بحب هذا الرجل.

وعندما قررتُ أن أشرعَ في الدكتوراة، حصلتُ على منحةٍ شخصية من بعضِ الإخوة للذهابِ إلىٰ «دولةٍ عربية»، لإتمام الدراسة، أخبرته، فمحضني النُّصح، قال لي: لا تذهب، ابحث عن مكانٍ آخر، وذكر لي أسبابًا وجيهة، اقتنعتُ بها، ثمَّ كان بعدها ما كانَ من ذهابي إلىٰ تركيا، فرحَ وأرسلَ لي أن أشد الهمَّة، وأفيد من مدةِ الاغتراب.

حضرتُ له مرة مناقشة علمية، وكانت أول مناقشة أحضرها له، كانَ خفيفَ الدَّم، خفيفَ الرُّوح، النكتة حاضرة بلا تكلف، وقد أخرجَ ملحوظات علىٰ البحث مهمَّة، حتىٰ خشيتُ علىٰ الباحث من كثرتها، وكانَ يميل إلىٰ الإيجاز، ويكره الإطناب في غيرِ حاجة.

وقد تبوأ العديد من المناصب، فما تغير، بقي هو هو الذي نعرفه، وحازَ على الأستاذية، في وقتٍ دخلت فيه البلاد قاعًا مظلمًا، فما أعطيَ حقه. عُرضَ عليه مرارًا أن يتركَ المدينة للتدريس في دولةٍ أخرى، فما رغبَ في ذلك، وبقي في مكانه، ثابتًا علىٰ مبادئه، لا همَّ له إلا البحث العلمي، والمطالعة، وحب العلم، وتقويم الأعمال البحثية، وقد حُوربَ كثيرًا، وضُيِّق عليه، لأنه يكره الظلم، والباطل، ولأنه رجلٌ لا يقبل أن يكون مطيَّة لأحد، رحلَ إلى الله والناس تبكيه!

عَلَـيـكَ سَـلامُ اللَهِ وَقــفًا فَإِنَّني
رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ