كتابات وآراء


الجمعة - 09 مايو 2025 - الساعة 11:42 م

كُتب بواسطة : الإعلامي / منور مقبل - ارشيف الكاتب








على امتداد التاريخ اليمني، لم تكن الإمامة مجرد نظام سياسي عابر، بل كانت منظومة سلطوية تتقن إعادة تشكيل ذاتها وفق ما يخدم مصالحها، متكيفةً مع تغير الظروف، دون أن تتخلى عن جوهرها الثيوقراطي الذي يُكرّس الحكم لسلالة دون غيرها، ويُعيد تدوير أدوات الهيمنة وفق ما يتيح لها البقاء.

هذا النموذج لم يكن مجرد شكل من أشكال الحكم، بل كان منظومة محكمة في التلاعب بالواقع، بحيث لا يظهر في كل مرحلة وكأنه امتداد لما قبله، بل يُقدَّم على أنه تحول جديد يُناسب المرحلة، ويُعيد تعريف المشروعية وفقًا لما يخدم بقاءه، لا وفقًا لأي مبدأ أخلاقي ثابت أو رؤية وطنية حقيقية، رغم أن جوهره السلطوي الكهنوتي لم يتغير منذ نشأته الأولى.

الإمامة الحوثية، منذ أن وجدت موطئ قدم لها في اليمن، لم تكن تُدار وفق رؤية وطنية بقدر ما كانت تُكرّس نفسها كسلطة مغلقة على فئة محددة، تُعيد إنتاج خطابها السياسي كلما احتاجت إلى تثبيت وجودها، بحيث تصبح الشعارات الوطنية والقضايا الأخلاقية والدينية وسيلةً لشرعنة بقائها، لا تعبيرًا عن مواقف حقيقية. لهذا، نجدها قد استخدمت القضية الفلسطينية، مثلها مثل أي قضية أخرى، بوصفها أداةً في لعبة البقاء، حيث تُعيد تدوير المواقف وفقًا لما يخدم مشروعها، لا وفقًا لأي رؤية أخلاقية ثابتة.

لم يكن من الغريب أن تُوظِّف الإمامة القضية الفلسطينية اليوم، كما وظَّفت قضايا أخرى في الماضي، حيث تتحول فلسطين، في سياقها السياسي، إلى مجرد لافتة تُستخدم لترسيخ سلطتها، لا بوصفها موقفًا مبدئيًا نابعًا من الالتزام بالحق والعدالة. ففي الأربعينيات، حين كانت المصلحة تقتضي ذلك، هجَّرت الإمامة اليهود اليمنيين إلى فلسطين، مساهمةً في بناء مجتمع الاحتلال الصهيوني، غير مكترثةٍ بما يمكن أن يُشكِّله ذلك من خطر مستقبلي على العرب والمسلمين، إذ لم يكن في حساباتها آنذاك سوى تثبيت سلطتها والتماهي مع القوى التي تضمن بقائها.

اليوم، ومع تحولات المشهد الإقليمي، وجدت الإمامة أن التماهي مع خطاب العداء لإسرائيل يُعزز مكانتها، فتبنَّت موقفًا يُظهرها وكأنها القوة التي تُدافع عن فلسطين، رغم أنها في حقيقة الأمر لا تتحرك إلا وفقًا للمصلحة الضيقة التي تُبقيها متماسكة داخليًا، وفي مشهد يُعيد تأكيد القاعدة الثابتة: القيم في عقلية الإمامة ليست سوى درجات للصعود نحو الحكم، لا مواقف أخلاقية تُبنى على أساس ثابت.

هذه المكيافيللية السياسية لم تكن يومًا منفصلةً عن استراتيجيات الإمامة في إعادة إنتاج سلطتها، حيث تتقن تحويل الشعارات إلى أدوات تُكرِّس وجودها، وتجيد إعادة تعريف العدو وفقًا للحاجة السياسية، لا وفقًا للحقيقة. لقد استطاعت هذه الإمامة عبر التاريخ أن تُحوِّل كل قضية إلى درجة للصعود نحو الحكم، ولم تكن يومًا معزولة عن قدرتها على هندسة الوعي الشعبي، بحيث تُعيد توجيه العاطفة الجماهيرية وفقًا لما يُعزز سلطتها، فتُحوِّل الغضب إلى طاعة، وتُعيد تعريف العدو وفقًا للحاجة السياسية، لا وفقًا للحقيقة الموضوعية.

لهذا، نرى أن الحوثيين، الذين يُقدِّمون أنفسهم اليوم بوصفهم مناهضين لإسرائيل، يمارسون في الداخل اليمني انتهاكات لا تقل بشاعةً عن تلك التي يُمارسها الاحتلال في فلسطين، حيث أصبحت الجرائم التي يرتكبونها تتجاوز حتى ما يحدث في غزة، من تجويع ممنهج، إلى اعتقالات عشوائية، وتكميمٍ للأفواه، وقمعٍ للأقليات، وهدمٍ لكل إمكانية للتعدد أو التعايش.

لكن الأخطر من كل ذلك، أن الحوثيين لا يكتفون بممارسة القمع، بل يُحكمون السيطرة على العقل الجمعي، بحيث يُصبح خطابهم جزءًا من الإدراك الشعبي، حتى يرى الضحايا أنفسهم القصف الأمريكي عليهم بوصفه دليلًا على صحة موقفهم، لا بوصفه استجابةً لمغامراتهم غير المحسوبة. هذه الاستراتيجية في تطويع الوعي الجماهيري لا تُعبِّر عن مجرد براعة سياسية، بل تُشير إلى قدرة فائقة على إعادة تشكيل الإدراك، بحيث تختار الضحية جلادها، لا لأنها تراه عادلاً، بل لأنها أُجبرت على تصديقه بوصفه “الحامي الوحيد”.

لقد أتقن الحوثيون، كما أتقنت الإمامة عبر التاريخ، استغلال المشاعر الدينية والقومية، فحوَّلوا “الموت لأمريكا وإسرائيل” من صيحة غضب إلى سياسة سلطوية تُخفي تحتها كل الانتهاكات، وتُعيد تعريف الاستبداد بوصفه ضرورة أمنية، لا مجرد خيار سياسي قابل للنقد. لهذا، فإن أي مواجهة سياسية مع الحوثيين اليوم لا يمكن أن تقتصر على البعد العسكري، بل يجب أن تمتد إلى البعد الفكري، حيث يتم تفكيك السردية التي زرعوها في العقول، والتي جعلت الجماهير ترى الطغيان كحالةٍ طبيعية، والخضوع كشرطٍ للبقاء.

الإمامة، بوصفها منظومة سياسية، لم تكن يومًا تمتلك قيمًا أخلاقية ثابتة، بل كانت دائمًا تُعيد تشكيل مواقفها وفق ما يخدم سلطتها، حتى تبدو كل مرة وكأنها حالة جديدة، رغم أنها لا تزال تحتفظ بنفس جوهرها القائم على الهيمنة والاستبداد. وإذا كانت الإمامة قد استخدمت فلسطين في الماضي كذريعة لتنفيذ مصالحها الخاصة، فإن الحوثيين اليوم يُوظفون القضية ذاتها في خدمة مشروعهم، لا لأنهم يرونها قضية عادلة، بل لأنهم بحاجة إلى غطاءٍ يُبرر استبدادهم الداخلي، ويُعيد توجيه الوعي الشعبي بما يُناسب سلطتهم، لا بما يخدم الشعب اليمني في واقعه الحقيقي.

أخيرًا، الحديث عن الحوثيين اليوم لا يمكن أن يكون معزولًا عن تاريخ الإمامة في اليمن، حيث لا يُمثِّل حكمهم استثناءً سياسيًا، بل هو استمرارٌ لمنظومةٍ تُتقن التلون وفقًا للظروف، وتُعيد صياغة أدوات الهيمنة بحيث تبدو كل مرة وكأنها حالة جديدة، رغم أنها لا تزال تحتفظ بنفس جوهرها السلطوي الكهنوتي، حيث تتحول القضايا الكبرى إلى مجرد وسائل لتثبيت السلطة، لا مواقف تُبنى على أساسٍ أخلاقيٍ حقيقي.

إذا كان الحوثيون اليوم يُوظفون القضية الفلسطينية بوصفها غطاءً لتسويق أنفسهم كقوة مقاومة، فإن الحقيقة تُشير إلى أنهم، في الداخل اليمني، لا يُمارسون سوى نموذجٍ سلطويٍ يُعيد إنتاج الاستبداد بأدواتٍ مختلفة، حيث يصبح الولاء للجماعة شرطًا للحياة، ويُعاد تعريف الواقع وفقًا لرؤيتهم، لا وفقًا لحقيقة الصراع.