الجمعة - 16 مايو 2025 - الساعة 10:39 م
السياسة ليست فقط لعبة المصالح العلنية، بل هي أيضًا صناعةُ الفوضى والتحكم في مساراتها، حيث يُعاد تدوير الصراعات وفقًا لحاجات القوى الكبرى، لا وفقًا لحاجات الشعوب التي تعيش داخل دائرة هذه التوترات. ومن هذا المنظور، لا يمكن النظر إلى الحوثيين كجماعةٍ مسلحةٍ نشأت في سياقٍ يمنيٍّ خالصٍ، بل كجزءٍ من منظومةٍ أوسع، تُستخدم لضبط معادلات القوة في الخليج، بما يُكرّس حالة اللايقين التي تحتاجها القوى الإقليمية والدولية لضمان استمرار نفوذها.
الحوثيون، في هذا النموذج، ليسوا مجرد امتدادٍ للمشروع الإيراني فقط، بل جزءٌ من إستراتيجية دولية تُراعي التوازنات أكثر مما تُراعي الحلول ، بحيث يكون استمرار النزاع في اليمن عنصرًا ضروريًا داخل حسابات الأمن الإقليمي، لا خطأً يجب تصحيحه. فكرة أن هذه الجماعة تُشكِّل تهديدًا حقيقيًا يستوجب القضاء عليها هي في حد ذاتها جزءٌ من منظومة التفكير السياسي التي تُدار وفق نظرية خلق الأزمات بدلًا من حلها، حيث يكون وجود تهديدٍ دائمٍ مسألةً ضروريةً لضمان أن تظل المنطقة داخل إطارٍ يسمح للقوى الكبرى بالتحكم في مساراتها، من خلال التدخل، وتعزيز الإنفاق العسكري، وإعادة تدوير الصراع وفقًا لما يخدم المصالح الأكثر اتساعًا من أيّ مسألةٍ يمنيةٍ بحتة.
هذا التصور يُعيد طرح السؤال الجوهري حول علاقة الفوضى بالقوة، فالولايات المتحدة، التي تتحدث دائمًا عن ضرورة استقرار الخليج، لا تتعامل مع الحوثيين وفق مبدأ إنهاء التهديد، بل وفق مبدأ إدارته وضبطه، حيث لا يُسمح لهم بالخروج عن الحدود المطلوبة لدورهم، لكن لا يتم القضاء عليهم أيضًا، لأن وجودهم يُمثّل عنصرًا أساسيًا في معادلة النفوذ التي تُحدد كيف يتم التحكم بالخليج، بحيث يبقى دائمًا بحاجةٍ إلى الدعم العسكري والوجود السياسي الأمريكي. الحوثيون، بوصفهم قوة طائفية متطرفة، يؤدون وظيفة استراتيجية تتيح للولايات المتحدة فرض سياسات دفاعية على دول الخليج، وضمان استمرار الحاجة إلى الوجود العسكري والتسليح المكثف، مما يحول الصراع اليمني إلى أداة ابتزاز طويلة الأمد.
النظام الإيراني تعامل مع الحوثيين باعتبارهم امتدادًا جيوسياسيًا يتيح له توسيع نفوذه على حساب الدول الخليجية، مستخدمًا الجماعة كأداة تهديد مستمرة تتيح له التحكم في مسار الصراع دون الحاجة إلى تدخل مباشر واسع. هذه العلاقة لم تكن مجرد تحالف سياسي أو عسكري، بل كانت إعادة إنتاج كاملة للنموذج الإيراني في إدارة الحروب بالوكالة، حيث يصبح الحوثيون جزءًا من شبكة النفوذ التي تتحكم بها طهران عبر أدوات عسكرية وعقائدية واقتصادية ، ما يجعل اليمن، وفقًا لهذا التصور، منصة دائمة للابتزاز السياسي والعسكري.
وهذا ما يجعل اليمن، في ظل هذه المعادلة، ساحةٍ صراع يُعاد تشكيلها وفقًا لضرورات الهيمنة، وليس وفقًا لمتطلبات الحلول السياسية الحقيقية. فحين يُترك الحوثيون ليتمددوا داخل اليمن، وحين يتم احتواؤهم متى ما أصبحوا أكثر تهديدًا مما هو مطلوب، وحين يُستخدم وجودهم كذريعةٍ لفرض سياساتٍ دفاعيةٍ تكرّس الوجود العسكري الدولي، فإننا لا نكون أمام حربٍ تسعى لحلٍّ سياسي، بل أمام مشروعٍ طويل الأمد لإدامة النزاع بما يُحقق المصالح الأوسع للقوى الكبرى ، بحيث لا يكون هناك نصرٌ نهائي، ولا يكون هناك استقرارٌ حقيقي، بل حالةٌ مستمرةٌ من الفوضى المُدارة، التي تُبقي اليمن داخل دائرة اللايقين، وتُحافظ على توازنات القوة دون أن تُفضي إلى نهايةٍ واضحةٍ للصراع.
هذا النموذج ليس جديدًا في التاريخ السياسي، بل هو إعادة إنتاجٍ لنظرية الفوضى الاستراتيجية، حيث يتم ضبط النزاعات وفق رؤيةٍ تُعيد ترتيب مساراتها بدلًا من حلّها، بحيث لا يكون الهدف تحقيق السلام، بل ضمان أن تبقى المنطقة داخل حالةٍ من التوتر المستمر الذي يُبرر التدخلات العسكرية والدبلوماسية، ويُعيد تحديد أولويات الإنفاق الدفاعي، ويُكرّس نموذج الهيمنة بوصفه ضرورةً سياسيةً واقتصاديةً داخل النظام الدولي.
ولهذا، فإن أيّ حديثٍ عن إنهاء الصراع اليمني يجب أن يكون أكثر من مجرد استراتيجيات عسكريةٍ ضد الحوثيين، بل يجب أن يكون مراجعةً شاملةً للمعادلة الدولية التي تُبقي اليمن داخل هذه الدائرة ، بحيث لا يكون الحلّ مجرد مواجهةٍ مع جماعةٍ مسلحة، بل كسر النموذج الذي يُعيد إنتاج هذه الفوضى بوصفها حاجةً سياسيةً أكثر مما هي نتيجةٌ طبيعيةٌ للحرب.
في نهاية المطاف، الحوثيون ليسوا فقط ميليشيا انقلابية تسيطر على الدولة، بل ورقة ضغط دولية تُستخدم لضمان استمرار الفوضى، حيث يتم ضبط حدود تحركاتهم وفقًا لما يخدم مصالح القوى الكبرى، مما يجعل وجودهم جزءًا من لعبة توازنات تتجاوز اليمن، وتُكرّس فكرة أن الحرب ليست مجرد نزاعٍ داخلي، بل هي جزءٌ من استراتيجية تُعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.