السبت - 26 يناير 2019 - الساعة 12:57 م بتوقيت اليمن ،،،
وكالات
في حظيرةٍ داخل إحدى مزارع الدواجن على أطراف مدينة كولتشستر في جنوب شرق إنجلترا، تقبع آلاف الدجاجات على أكوام من المخلفات، ويبدو أنَّ أحدًا لا ينتوي تنظيف تلك المنشآت حتى يأتي وقت قتل هذه الطيور. وهو ما يعني أنَّ هذه الدجاجات ستستمر في المعاناة اليومية من حروق الأمونيا، ونمو الريش ببطء بالغ، بالإضافة إلى إصابة أجسامها بالنمل واليرقات.
يستعرض تقريرٌ نشرته مجلة «الإيكونومست» الجوانب الخفية التي لا تظهر عادةً من تجارة الدواجن، التي يصفها التقرير بأنَّها «تجارةٌ قذرة، لكنَّها مربحةٌ في الوقت نفسه». إذ شهدت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وهي عبارة عن تحالف أغلبه بلدان غنية، ثباتًا في معدل استهلاك لحم الخنزير واللحم البقري، فيما نما استهلاك الدجاج بنسبة 70% منذ عام 1990.
وفقًا للمجلة، يلتهم البشر كميةً هائلة من لحوم الدجاج، لدرجة أنَّ الدواجن تستحوذ الآن على 23 مليار من مجموع حيوانات اليابسة التي تُربَّى في المزارع، البالغ عددها الإجمالي 30 مليار. وبحسب ورقةٍ بحثية صدرت مؤخرًا عن جامعة ليستر البريطانية، أعدتها كاريس بينيت ومجموعة من زملائها، فإنَّ العدد الكلي للدجاجات المرباة في المزارع يفوق عدد الطيور الأخرى على كوكب الأرض مجتمعةً. وفي لندن، على بعد نحو 50 ميلًا إلى الغرب من كولتشستر، تنتشر مطاعم الدجاج المقلي في كل مكان، وتُسمى الكثير منها بأسماء ولايات أمريكية (بما في ذلك كانساس، ومونتانا، وبالطبع كنتاكي). لكن يبدو أنَّ تلاميذ المدارس ومرتادي حفلات آخر الليل لا تزعجهم كثيرًا تلك الأسماء الغريبة، ولا يساورهم أدنى قلقٍ بخصوص مصدر تلك الوجبات.
ولماذا يشعر أحدٌ بالقلق والدجاج طعمه لذيذ ومنخفض التكلفة؟ إذ تفيد مجلة «الإيكونومست» بأنَّ رطل الدواجن في أمريكا يكلف الآن 1.92 دولارًا، بانخفاضٍ قدره 1.71 دولارًا عن عام 1960 (بعد التعديل لمراعاة عامل التضخم). وفي الوقت نفسه، انخفض سعر اللحم البقري للرطل الواحد بمقدار 1.17 دولارًا، ليصل في نهاية الأمر إلى 5.80 دولارًا.
ترجع هذه الوفرة في كمية الدجاج وانخفاض ثمنه إلى أساليب التربية الانتقائية. فبحسب المجلة، أطلقت أمريكا في الأربعينيات سلسلة مسابقات «دجاج الغد» للمزارعين. وكان الهدف منها، مثلما أوضحت إحدى الصحف في ذلك الوقت، هو إنتاج «دجاجة واحدة ضخمة بما يكفي لتُشبع جميع أفراد العائلة: أي دجاجةٍ يتميز لحم صدرها بأنَّه سميك بما يكفي لتقطيعه إلى شرائح، ولها وركان يحتويان على أقل قدرٍ من العظام المدفونة في طبقاتٍ من اللحم الغض القاتم، وكل ذلك بتكلفة أقل، لا أكثر». وبحسب المجلة، كانت النتيجة تشبه إلى حدٍ كبير الدجاج المسمَّن الذي نعرفه في عصرنا الحالي.
ومنذ ذلك الحين، ازداد حجم الدجاجة الواحدة. ووثقت دراسة أجراها مارتن زويدهوف من جامعة ألبرتا الكندية والعاملون معه هذا التحول، بمقارنة سلالات الدجاج التي تلقت تربيةً انتقائية في الأعوام 1957 و1978 و2005. ووجد الباحثون أنَّه عندما بلغ عمر الدجاجة 56 يومًا، وصل متوسط وزن كل دجاجة أجريت عليها الدراسة إلى 0.9 كجم و1.8 كجم و4.2 كجم على التوالي (انظر الرسم البياني). وبما أنَّ تربية دجاجة كبيرة واحدة تُعد استثمارًا أفضل من تربية دجاجتين صغيرتين، فلا يحتاج المزارعون الآن إلا إلى 1.3 كجم من الحبوب لإنتاج كجم من الدجاج، مقارنةً بعام 1985، حين كان إنتاج الكيلوجرام الواحد يستهلك 2.5 كجم من الحبوب.
وتلفت المجلة إلى أنَّ الاستخدام المكثف للمضادات الحيوية يعني أنَّ المزارعين لم يعودوا بحاجةٍ إلى القلق بشأن سلامة دجاجاتهم. فقبيل الحرب العالمية الثانية، ربيت معظم الطيور في مساحاتٍ ضيقة، واستغل المزارعون الدجاجات المرباة في بيع البيض، ثم بيع لحومها حين تصبح متقدمةً في السن بما لا يسمح لها بوضع المزيد من البيض. لكنَّ العلاجات الوقائية أتاحت للمزارعين تخزين الدجاج في ظروفٍ كانت تعتبر ذات يومٍ مكتظةً وقذرة. والطيور التي تربى في مساحاتٍ أكثر كثافة، تعجز عن التحرك في أرجائها كيفما أرادت، ومن ثم تتطلب قدرًا أقل من العلف.
استفاد المزارعون أيضًا مما يُشاع عن لحوم الدجاج بأنَّها لحوم صحية مقارنةً باللحوم الحمراء. ففي ثمانينيات القرن الماضي، انتاب الأطباء القلق تجاه تناول الناس كمياتٍ كبيرة من لحوم البقر ولحوم الخنزير، الذي يعني تناولهم كميةٍ كبيرة من الدهون المشبعة، إذ كان يعتقد أنَّها تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب. ورغم تضاؤل هذه المخاوف في الوقت الحالي، تشير الدلائل الجديدة إلى أنَّ اللحوم الحمراء تُعرِّض الناس بالفعل للإصابة بسرطان القولون. وعلى الناحية الأخرى، لم تتزعزع صورة الدواجن باعتبارها غذاءً صحيًا بأي شكل.
سيقان وريش
بحسب «الإيكونوميست»، فإنَّ الانتقائيون في الغرب ليسوا وحدهم من يفضلون تناول الدجاج، إذ يعني ارتفاع الدخل أنَّ الطلب على اللحوم ينمو بوتيرةٍ أسرع في البلدان الفقيرة. ونتيجةً لذلك، أصبح لحم الدجاج الآن أكثر اللحوم تداولًا في العالم. ومن الناحية الاقتصادية، تعد تجارة لحوم الدجاج على طرف النقيض من تجارة السيارات، إذ تُنتج الدجاجة كاملةً، لكنَّها تزداد في القيمة فور تقطيعها.
ومع أنَّ الشعوب الغربية تفضل اللحوم البيضاء الخالية من الدهون، فإنَّ كثيرًا من الناس في آسيا وإفريقيا يحبذون اللحوم القاتمة، أي ساقي ووركي الدجاجة. وتنعكس هذه التفضيلات في الأسعار المحلية، إذ نجد أنَّ صدور الدجاج في أمريكا أكثر قيمةً من الأرجل بنسبة 88%؛ أما في إندونيسيا، فنجدها أقل بنحو 12%.
وتعد الاختلافات في أسعار سيقان الدجاج أكثر وضوحًا، فبينما ينفر الكثيرون من الناس في الغرب من تناول المخالب، إلا أنَّها غالبًا ما تُستخدم في الوصفات الكانتونية، إذ تستورد الصين الآن 300 ألف طن من «مخالب طائر الفينيق» سنويًا.
وترى المجلة أنَّ حقيقة تخصص كل بلدٍ في نوعٍ مختلف من الإنتاج تُعزز من تجارة الدجاج. إذ تعد أمريكا والبرازيل، وهما أكبر بلدين مصدرين للدجاج في العالم، من القوى الزراعية التي تُنتج كمياتٍ ضخمة من العلف، وهو العنصر الأكثر تكلفة في إنتاج الدواجن.
وفي المقابل، تهيمن تايلاند والصين على سوق اللحوم المصنعة، التي تتطلب عمالةً رخيصة وماهرة. فيما أصبحت كلٌ من روسيا وأوكرانيا، اللذين كانا يومًا ما مستوردين للدجاج، دولًا مصدرةً بعدما نمت صناعة الحبوب في كلاهما.
إلا أنَّ المنتجين الذين يصدرون لحوم الدجاج للخارج يعرضون أنفسهم للمخاطر القانونية. فتجارة الدجاج مسألةٌ حرجة في المفاوضات التجارية، إذ فرضت الصين تعريفاتٍ جمركية على الطيور الأمريكية في عام 2010، ثم حظرت جميع الواردات بعد فترةٍ قصيرة من تفشي مرض إنفلونزا الطيور في عام 2015. ويشكك مراقبو الصناعة من احتمالية رفع الحظر، مما يثير استياء المزارعين الأمريكيين الذين يرغبون في تلقي أرباح أكبر مقابل كميات سيقان الدجاج التي ينتجونها سنويًا، البالغ حجمها 20 مليار طن وتستخدم حاليًا علفًا للحيوانات.
وبالمثل، حظر الاتحاد الأوروبي استيراد الدجاج الأمريكي المعالج بالكلور في عام 1997، بسبب القلق من أنَّ غسله بالكلور يؤدي إلى تدني معايير النظافة في المزارع. فيما شكلت الجدالات التي أُثيرت بشأن الدجاج المعالج عقبةً كبيرة في مفاوضات «شراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي»، وهي صفقة تجارية لم يُكتب لها النجاح بين أمريكا والاتحاد الأوروبي. ويخشى بعض البريطانيين على الناحية الأخرى من أنَّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سينتج عنه أنَّ أي صفقةٍ تجارية موقعة مع أمريكا قد تجبرهم على قبول وارداتٍ مماثلة.
ومع أنَّ الطفرة الإنتاجية للدجاج كانت أمرًا يصب في مصلحة المستهلكين عمومًا، يشعر مناصرو الرفق بالحيوان بالقلق من أنَّ تدابير خفض تكاليف صناعة اللحوم قد تأتي على حساب الطيور. وتنقل المجلة عن فيكي بوند من مجموعة «هيومن ليج» المناصرة لحماية حيوانات المزارع قولها إنَّ حجم الدجاجة في وقتنا الحالي هو السبب الأساسي في أسوأ المشكلات.
فغالبًا ما تكون عضلات منطقة الصدر لدى الدجاجات المسمنة كبيرة للغاية بما يعوق قدرتها على دعم العظام ويؤدي إلى إصابتها بالعرج. وفي كولتشستر، صارت الدجاجات عاجزة عن الاستجابة لمربيها، لدرجة أنَّ تحركاتها صارت أشبه بتحركات الموتى الأحياء. وبالفعل، أصبح الدجاج الحديث كبيرًا لدرجة أنَّ عضلاته تعيق اتخاذ الوضع المناسب لعملية التزاوج (بمعنى أنَّه يجب تجويع الدجاجة قبل أن تفكر حتى في ممارسة طبيعتها الفطرية).
وازداد عدد المستهلكين المستعدين الآن لدفع ثمن اللحوم التي تربت حيواناتها في ظروفٍ أفضل، ويرجع ذلك جزئيًا بسبب التأثير الكبير الذي أحدثته جمعيات مناصرة الرفق بالحيوان، بجانب أنَّ شراء اللحوم أصبح في متناول الجميع. هذا فيما ترتفع مبيعات الدجاجات الطليقة والعضوية التي تتاح لها حرية الحركة في الخارج، على عكس معظم الدجاج المسمن.
وفي هولندا، لجأ عدد ضخم من تجار التجزئة إلى تربية السلالات التي تنمو نموًا أبطأ نتيجةً للسخط العام الذي أثاره انتشار دجاجات «plofkip» (وهي ما تعني الدجاجة المتفجرة لسرعة نموها المذهلة). وبهذا انخفضت حصة «الدجاجات المتفجرة» في السوق الهولندية من نحو 60% في عام 2015، إلى 5% في عام 2017. وفي بريطانيا، تجاوزت مبيعات بيض الدواجن الطليقة تلك التي تربى داخل أقفاص.
وتقول المجلة إنَّ تلك المخاوف بشأن صحة الدواجن أدت إلى إقرار الاتحاد الأوروبي بعض قوانين الرفق بالحيوان الأكثر صرامة في العالم، منها قرار حظر أقفاص تربية الدواجن التي تعمل بالبطاريات في عام 2012. هذا بينما كان سن إصلاحاتٍ تشريعية مهمة أمرًا أصعب في أمريكا، خاصةً على المستوى الفيدرالي، إذ يشجب مناصرو الرفق بالحيوان نظام الكونجرس في البلاد في ما يتعلق بهذه المسألة، والذي يمنح نفوذًا في غير محله للولايات الريفية.
ومع ذلك، طرأ تغييرٌ نادر لكنَّه مهم على مستوى الدولة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما صوت سكان كاليفورنيا لصالح المقترح 12، الذي يحظر إنتاج وبيع لحم الخنزير ولحم العجل وبيض الحيوانات التي تربى داخل أقفاص، مما جعل قوانين الولايات المتحدة متماشية تقريبًا مع قوانين الاتحاد الاوروبي. ويؤثر هذا التغيير في جميع منتجي اللحوم الذين يسعون للبيع في كبرى الولايات الأمريكية، مما يضغط عليهم لتغيير ممارساتهم.
وكانت الشركات العامة أكثر استجابةً للقلق على سلامة الحيوانات من المشرعين. إذ حقق الناشطون نجاحًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة عبر تهديد الشركات بإصدار صور ومقاطع فيديو تنتقد كيفية إنتاجهم للأطعمة. ووجدت الأبحاث التي أجرتها منظمة «أوبن فيلانثروبي بروجكت»، وهي مجموعة تمول النشطاء المناصرين للرفق بالحيوان، أنَّ هذه الحملات دعت أكثر من مئتي شركة أمريكية، بما في ذلك «ماكدونالدز»، و«برجر كينج»، و«وولمارت»، إلى التوقف عن شراء بيض الدجاجات التي تُربَّى في أقفاص البطاريات منذ عام 2015.
ميلاد فكرة
لذلك يهتم المزارعون اهتمامًا متزايدًا بتحسين حياة دواجنهم. ومن هؤلاء ريتشارد شوارتزتينتروبر، الذي يمتلك حظيرتي دجاج في جرينوود، وهي بلدة صغيرة تقع في ولاية ديلاوير الأمريكية. إذ توقفت شركة «بيرديو فارمز» التي يزودها باللحوم عن استخدام المضادات الحيوية تمامًا في طعام الدجاج. وتحتوي الحظيرتان اللتان يمتلكهما ريتشارد على الكثير من النوافذ والأبواب المطلة على حقلٍ عشبي مسيّج، ويفتحها متى سمح الطقس بذلك.
لكنَّ هذا يأتي مع بعض التنازلات، فرغم أنَّ الدجاجات تحب الاتكاء على الأشجار، فكذلك تفعل الطيور الجارحة مثل الصقور. وتنتشر داخل الحظائر بالات من القش، وصناديق خشبية، ومنصات بلاستيكية للترفيه عن الدجاجات. وقد ساعدته هذه الإجراءات في الحصول على شهادة المزرعة الجيدة من مؤسسة «جلوبال أنيمال بارتنرشيب» الخيرية.
ويقول بروس ستيوارت براون، العالم المتخصص في سلامة الأغذية لدى شركة «بيرديو فارمز»، إنَّ شركته تود لو تمكنت من تربية المزيد من الدجاج العضوي، لكنَّ قدرته على توفير اللحوم العضوية عالية الجودة تقيدها في نهاية المطاف القوة السوقية، لأنَّ الأعلاف التي يشترطها القانون باهظة الثمن. وعلى الرغم من تزايد أعداد الأشخاص المستعدين لدفع أموالٍ باهظة مقابل المنتجات العضوية أو الطليقة، يفضل أغلب المستهلكين لحومًا أقل في التكلفة.
وختامًا، تلفت المجلة النظر إلى أنَّه على الرغم من الاهتمام المتزايد بالحميات النباتية بجميع أنواعها، وجدت الدراسات الاستقصائية أدلةً قليلة على تزايد عدد آكلي الأعشاب المنتمين إلى بلدانٍ غنية. فالناس قد يحبون تجربة الحميات النباتية من حينٍ لآخر، لكنَّهم يفضلون الدجاج أكثر من غيره.
ساسة بوست