شئون دولية

الأربعاء - 11 أغسطس 2021 - الساعة 10:42 ص بتوقيت اليمن ،،،

واشنطن

تركز معظم تقييمات الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بالإضافة إلى التقدم المتوقع لطالبان، على حقوق الإنسان والمعايير الغربية في البلاد، وخاصة بالنسبة إلى النساء، وتحويل أفغانستان إلى قاعدة إرهابية لضربات خارجية ضد قوى أجنبية بعيدة.

وليست هذه بالضرورة تصورات خاطئة، لكن مع تحول العقلية الأمنية للولايات المتحدة من صراعات مكافحة الإرهاب والتمرد إلى المنافسة مع الصين، ستجد نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أولويات اهتمامها وتدخلاتها العسكرية.

وبالنظر إلى هذا السياق المتغير والدروس التي تعلمتها طالبان نفسها على مر السنين، يقول الباحث الأميركي رودجر بيكر في تقرير لمركز ستراتفور للدراسات والأبحاث الجيوسياسية الاستراتيجية والمتخصص بالشؤون الأمنية، إن هناك حاجة إلى مراجعة تلك التقييمات من خلال التعامل مع الأسئلة الأساسية الثلاثة التالية كما لو كانت جديدة: ما هي طالبان؟ ماذا تعلمت طالبان من الصراعات في أفغانستان والعراق وسوريا؟ وماذا تعلمت طالبان من الحادي عشر من سبتمبر؟

ما هي طالبان؟

يعتبر هذا سؤالا مهما لأنه يساعد في تحديد أهداف الحركة، وكذلك بعض قدراتها ونقاط ضعفها. إذ يزعم الافتراض الشائع أن طالبان منظمة إرهابية عازمة على فرض الشريعة الإسلامية في أفغانستان وخارجها، وأنها لا تخشى استضافة جهاديين دوليين أجانب عازمين على مهاجمة الولايات المتحدة أو أوروبا.

باختصار، إن طالبان جزء من حركة جهادية عابرة للحدود تسعى للإطاحة بالنظام الغربي عالميا. لكن ماذا لو غيّرنا وجهات النظر، ونظرنا إلى المجموعة في سياق الحركات الثورية الأخرى؟

يقول رودجر بيكر نائب الرئيس الأول لمركز التحليل الاستراتيجي ستراتفور، يمكننا وصف طالبان بأنها حركة إثنوغرافية دينية قومية، عازمة على إعادة بناء أفغانستان السابقة المتصورة والتي كانت قوية وواثقة من نفسها ومتكاملة في أنماط التجارة والسلطة الإقليمية المحدودة، فضلا عن كونها قادرة على الدفاع عن مصالحها الخاصة.

وفي ظل هذا الإطار ستكون لدى طالبان أهداف محلية أكثر إذ ربما تنتشر في باكستان وإيران، أو أجزاء من آسيا الوسطى ولكن من الواضح أنها مقيدة في نطاقها.

وكانت طالبان قد حققت هذا الهدف تقريبا في أواخر التسعينات وحتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وكانت قواتها قد دفعت التحالف الشمالي إلى الوراء، وبدأت في تعزيز قوتها في أجزاء رئيسية من أفغانستان، واستولت على كابول. كما أقامت علاقات دبلوماسية مع باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكانت تجري مناقشات مع دول أخرى بما في ذلك الصين.

وعلى الرغم من الاحتلال السوفياتي السابق، لم توجه حركة طالبان أنشطتها نحو مهاجمة روسيا انتقاما. وشارك مقاتلو طالبان بشكل دوري في اشتباكات على طول الحدود الإقليمية لأفغانستان، لكن تلك الهجمات كانت في الغالب تتعلق بضرب قوات المعارضة الداخلية أو تأكيد مطالباتهم بأفغانستان التاريخية الأكبر، بدلا من محاولة مهاجمة القوة الروسية. وبعد احتلالها كابول في 1996 سعت طالبان للحصول على اعتراف من الأمم المتحدة لكنها قوبلت بالرفض مرارا وتكرارا، مما دفع انتباهها إلى الداخل. ومع ذلك، نجحت المجموعة في حماية أسامة بن لادن ضد دعوات تسليمه.

دروس الصراعات
يقول الرأي الشائع إن طالبان، كما هو الحال مع الحركات السابقة، تدرك ميزتها الاستراتيجية طويلة المدى في القتال على أراضيها.

كما أنه لا يطلق على أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات دون سبب، إذ ترى طالبان انسحاب القوات الأميركية كمثال آخر على أن الإصرار يمكن أن يطرد القوات الأجنبية. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أيضا أن هذا يأتي على حساب الوقت والأرواح والاقتصاد والبنية التحتية. بعبارة أخرى، يضعف أفغانستان، ويتركها ممزقة داخليا. لكن جزءا من أساطير طالبان أو أسلافها هو أنه حتى مع فقرها التكنولوجي، فإنها قادرة على التغلب أخلاقيا على القوة الخارجية “المتفوقة” سواء كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي أو الإمبراطورية البريطانية. ويعزز هذا النمط تصور النصر الحتمي.

وهذا قد يكون، وفق رأي بيكر، أحد أسباب تقييم أولويات القوى الأجنبية إلى جانب الدروس المستفادة من العراق وسوريا.

ففي العراق وسوريا، تكون المصالح القريبة لتركيا أكبر بكثير من المصالح البعيدة للولايات المتحدة، كما يتضح من تحول اهتمام واشنطن ونشر القوة. وكان هدف الحكومة الأميركية الرئيسي في صراعات العراق وسوريا وأفغانستان هو وقف شيء ما، دون اهتمام أو التزام حقيقي ببناء شيء جديد مكانه.

وربما تكون أيام جهود “بناء الأمة” التي أعقبت الصراع قد ولت بعد الحرب العالمية الثانية، أو ربما نجت جزئيا خلال الحرب الكورية. لكننا لم نشهد في التاريخ استعداد الولايات المتحدة الحديث لتحمل التكلفة والمسؤولية الهائلة لإعادة بناء بلد في صورة جديدة.

ولم يكن للتدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط على مدار العشرين عاما الماضية أهداف نهائية واضحة تتجاوز معاقبة تهديد معين أو وقف تطوّره سواء أكان ذلك هجمات إرهابية أم مخاوف من أسلحة نووية.

وحتى ذلك الحين، دفع زحف المهمة الولايات المتحدة ببساطة إلى صراعات غير محددة المعالم لا تنتهي أبدا. وبدأت واشنطن في إخراج نفسها من المهام التي لا تنتهي فقط مع الاعتراف المتأخر بالمنافسين الأقران الصاعدين، مدركة لمواردها المحدودة وتصور الشعب الأميركي المتضائل للتهديد الملموس.

وعلى نفس المنوال، قسمت تصرفات روسيا في سوريا الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا. وليست روسيا نفسها من بناة الأمم، لكن لديها مصالح استراتيجية في المنطقة من بناء القوة إلى المنشآت خارج البوسفور. لكن روسيا وجدت نفسها تقريبا عالقة في سوريا أيضا.

ويرى المحلل الأميركي أنّ الدرس المستفاد لطالبان قد يكون أن القوى القريبة هي مصدر قلقها الأكبر وأن القوى البعيدة تبقى بعيدة.

كما أن التحديات الأكثر احتمالا التي تواجه طالبان الآن هي في أماكن مثل باكستان وطاجيكستان وأوزبكستان وإيران، حيث تعبر مصالحهم العرقية والطائفية الحدود. وبالنسبة إلى طالبان، قد تكون منشغلة في أفغانستان وعلى طول حدودها المباشرة، مما يضعف نيتها في ضرب مناطق بعيدة في الخارج.

إذا نظرنا إلى طالبان على أنها حركة قومية عرقية دينية، حتى لو كانت ذات وجهات نظر سياسية ومجتمعية مختلفة عن الغرب، فإن أحد الاحتمالات هو أن طالبان ترى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أخّرت توطيد سلطتها في أفغانستان بعقدين.

بعبارة أخرى، قد يدفع السماح للقوات الأجنبية باستخدام أفغانستان كقاعدة عمليات لتخطيط وتنفيذ ضربات ضد القوى الغربية الرئيسية (أو الصين أو روسيا بشكل مباشر) بهذه الدول للتغلب على تحفظها على الأنشطة في أفغانستان، مما يؤدي إلى معارضة نشطة وعمليات عسكرية تشنها قوى خارجية بعيدة تؤخر توطيد سلطة طالبان في أفغانستان وجعلها بلدا مثاليا موحدا مرة أخرى.

ولقد كانت الأنماط التقليدية للضربات الصاروخية المحدودة هي القاعدة للرد الأميركي على تصرفات بن لادن من أفغانستان لفترة طويلة. ثم أدى ضرب الولايات المتحدة في سبتمبر 2001 إلى تغيير كبير في رد فعل واشنطن. وبالنظر إلى هذه التجربة، فقد خطر في أذهان قادة طالبان بلا شك بأن الإجراءات المماثلة تجاه روسيا أو الصين يمكن أن تغيّر سلوك هذين البلدين أيضا.

واليوم، تستخدم الصين النفوذ الاقتصادي لمحاولة تقييد مقاتلي الإيغور المتشددين في الدول الأجنبية. وقد تلتزم بهذا النهج إذا شن المسلحون المتمركزون في أفغانستان هجمات على شينجيانغ فقط.

لكن، ماذا لو بدأ هؤلاء المسلحون بمهاجمة بكين أو شنغهاي؟ هل تترك الصين، بتطوراتها العسكرية الحالية وتطلعاتها العالمية، مثل هذا الهجوم يمر دون رد قوي؟ يجب أن تفكر طالبان في هذه التداعيات. إن هذا ما قد يفسر محادثاتها الأخيرة مع بكين.

يشير بيكر إلى أنه من الواضح أن هذه الأفكار ليست حاسمة. لكنها تطرح طرقا بديلة لتقييم حركة طالبان وأفعالها المحتملة داخل أفغانستان وخارجها. وقد رأينا حركة طالبان تقاتل ضد فروع الدولة الإسلامية التي كانت تمثل مركز قوة منافسا في أفغانستان. واستخدمت مقاتلين أجانب، لكنها سعت أيضا لإبقائهم تحت السيطرة أو في عمليات إقليمية محدودة في الماضي.

وتسعى طالبان بالفعل للحصول على اعتراف دبلوماسي إذا تغلبت على الحكومة الأفغانية الحالية. وهذا يتعلق بإظهار شرعيتها في الداخل كما في الخارج. وقد يؤدي عيش حياة مستمرة من القتال في نهاية المطاف إلى تدهور التدخل الغربي، لكنه لا يفعل الكثير لتوفير الخدمات والفرص للشعب الأفغاني. وتخاطر طالبان بأن تكون المجموعة التي كادت تحكم أفغانستان.

وحتى مع أخذ هذه الأساليب البديلة في الاعتبار والتي تتطلب المزيد من التحقيق، يقول المحلل الأميركي إن هناك أسئلة تظل أكثر إلحاحا: هل تستطيع طالبان أو الحكومة الأفغانية، بمفردهما أو معا، تأكيد السلطة والسيطرة الكاملة على أفغانستان؟

قد تصبح أفغانستان المنكوبة بحرب أهلية مستمرة هي المساحة غير الخاضعة للحكم والتي يقلق المراقبون بشأنها، حيث يمكن للمقاتلين الآخرين الاختباء والتدريب والتخطيط أثناء عملهم نحو أهدافهم الإقليمية أو الدولية.

وبالنسبة إلى جميع القوى التي تحيط بأفغانستان، يبدو أن هذا هو التخوّف الأكثر إلحاحا. أما بالنسبة إلى طالبان، فسيكون التحدي هو إدارة الحوكمة اليومية للفضاء المعقد بشكل لا يصدق في أفغانستان والتأكيد على أفكارها القومية دون إثارة تهديدات فورية من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.